ضمن مراجعاتي القرائية وقفت مجددا على كتابي الدكتور مصطفى حجازي "التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" وكذا "الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية"، وهما دراستان متكاملتان، كما يقول المؤلف نفسه، حيث تدرس الأولى أشكال ومستويات القهر كأهم أسباب التخلف الاجتماعي، بينما تدرس الثانية أنماط الهدر وألوانه.
يؤكد المؤلف على أن الدراستين تأتيان ضمن مشروع فكري يسعى إلى توظيف علم النفس في قضايا التنمية تطبيقا وجوديا على حياة الإنسان العربي، الذي يراه نموذجا تطبيقيا خصبا لهكذا مشروع! ينطوي على كافة أسباب وشروط وخصائص القهر والهدر والاستلاب والاستعباد والاستبعاد وهي كلها مفاهيم ذات تداخلات ومضامين وتجليات اجتماعية. هذا ما يذهب إليه مصطفى حجازي ليس ضمنا، دون إفصاح، بل مجاهرة ووضوحا، حيث يقول في فقرة من مقدمة الكتاب الثاني، الإنسان المهدور: والمقصود بالبحث هنا إنسان عالمنا العربي في واقعه الراهن، حيث تتوافق الأدبيات على وصفه بالمأزقي كيانيا.. وهي عبارة تشي وتفصح بالكثير من خبايا التحليل النفسي الاجتماعي، تطبيقا على حالة ماثلة كيانيا وحاضرة تاريخيا.
لكي تكون قراءتنا واضحة ومؤدية يستلزم لذلك سبر أغوار المفاهيم الأساسية طي المشروع قيد التعاطي وأهمها مفهوما القهر والهدر، وما ينبثق عنهما من مفاهيم معززة وساندة كمدخلات ونتائج. يعرف القهر معجميا بالغلبة والأخذ من فوق وبدون رضا الشخص الآخر المغلوب والمأخوذ عنوة، كما يقال. فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره الذي تعرض لفرض السطوة عليه من قبل المتسلط عنوة. وأما في تعريف التخلف الاجتماعي فيتمثل القهر في فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتباطها وقوى التسلط في آن.
أما الهدر فهو أوسع مدى، بحيث يستوعب القهر الذي يتحول إلى إحدى حالاته، فالهدر يتفاوت من حيث الشدة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره لا شيء.
ينطوي القهر على مضامين نفسية واجتماعية تعبر عن حجم تسلط القاهر واستلاب المقهور ماديا ومعنويا، جسديا، ذهنيا ووجدانيا، والقهر يعمد إلى إفراغ مضمون البشر الإنساني، وإرغامهم على التكيف والتعايش مع الدونية كحالة مصاحبة، أو متقابلة سلبا مع حالة السمو للقاهر، القامع والتسلطي. وهي ثنائية مختلة تربطها العلاقات الحرجة غير المستقرة أو شبه المتوازنة أو المتوافقة على أدنى مستويات وحدود التعايش النفعي، وهو تعبير عن صيرورة متواصلة من الاضطرابات على مختلف صعد الحياة للمجتمعات التي تعاني من ظواهر كهذه.
تبدأ مراتب القمع من حدود الذات عند الأفراد الذين يمارسون قمعا ذاتيا في حق أنفسهم لأسباب نفسية أو اجفتماعية أو سلوكية مرضية، كتعنيف الذات وقمعها على أتفه الأسباب والمثالب، وهذا السلوك يجانب فكرة النقد الذاتي، كظاهرة إيجابية لتقييم الذات وتقويمها بدرجة من المسؤولية والسوية. وقد يكون القمع ذا منشأ جيني كما يذهب إليه قلة من خبراء "البايوسيكولوجي" وهم على قلتهم فإن آراءهم وما يذهبون إليه غير ذي ترجيح في الدراسات الاجتماعية النفسية، أو ما يتعارف عليه بعلم النفس الاجتماعي، كعلم ناشئ على قاعدتي علمي النفس والاجتماع.
القهر رديف الهدر، فإذا كان خط بيان القهر يمتد من ذات الفرد مرورا بالأسرة والمدرسة ومكان العمل والعلاقات الزوجية وصولا إلى التسلط السياسي والاقتصادي وحجم القهر الذي يمارسانه ويصبانه على رؤوس المجتمعات، كذلك الهدر يمتد بامتداد خط القهر كظله صعودا وهبوطا، دون تلكؤ أو مراوحة.
أحيانا يكون الهدر رد فعل صارخا للقهر، حيث يمارس المقهور -انتقاما من ذاته- هدرا كبيرا لطاقاته، مقابل البحث عن توازن وهمي، غير متحقق. يتشعب القهر في مساقين اثنين كلونين أساسيين: هما القهر الفردي والقهر المجتمعي، ويتسم القهر في مراحل معينة بنوع من الانكفاء والانسحاب من قبل المقاومين لصنوف القهر والمناضلين ضده، حيث يكون هذا الانسحاب مقدمة مربكة لدخول المقاومين في دائرة القهر والانصياع الكلي لمتطلباته الدونية.
يرى المؤلف أن الإنسان أداة ووسيلة التنمية وغايتها، وهو بهذا حاضر في كل مراحل إنضاجها ابتداء من المدخلات مرورا بالمعالجات والمخرجات ودانتهاء بالغايات وما يترتب على كل ذلك من نتائج. شروط التنمية مرتكزة على فعل الإنسان وحركته الدائبة، ولهذا من الضرورة أن ينظر له من زاوية الريادة الوجودية، بحيث يحرّر سلفا من كل العوائق الذاتية والاجتماعية وما بينهما من عوائق ذات مناشئ أخرى.
الحرية السياسية، الديمقراطية، حقوق الإنسان وبالذات الأساسية منها، التنوع والتعدد، وحرية التفكير، والتعايش، وتساوي المواطنة، والإيمان بالمغايرة، وحق الآخرين في الاختلاف، كلها تجسد المناخ العام لانعتاق الإنسان، وتأهيله، وجعله مرتكزا للتنمية الحقيقية ذات العوائد العامة والشاملة للجميع.
"لقد عرف مفهوم التمية تحولا كبيرا من المنظور الاقتصادي الضيق إلى منظور التنمية البشرية التي تعتبر أداة وشرط كل تنمية اقتصادية وتقنية، ثم عرف تطورا جديدا هاما من خلال طرح منظور التنمية الإنسانية التي تعرف بأنها تنمية من قبل الناس بواسطة الناس ولمصلحة الناس، فالإنسان ليس مجرد طاقات وقدرات منتجة يتعين تأهيلها من أجل التنمية الاقتصادية، بل إن الإنسان هو المحور الأساس على مستوى المدخلات والعمليات والمخرجات، وكذا الغايات، وأنه لا تنمية ممكنة فعليا إلا بمقدار توسيع خيارات الإنسان، في امتلاك زمام مصيره تسييرا وتوجيها وصناعة من خلال بناء اقتداره الذاتي وتمكينه الكياني، بحيث يرتقي إلى نوعية حياة تحقق له كامل أهليته"، هذا النص يكاد يكون لبنة أساس المشروع الذي اشتغل ويشتغل عليه مصطفى حجازي، حيث ينطلق بناء المشروع هذا على أساس تحرير قدرات الإنسان وبناء طاقاته باعتبارها قاعدة بناء التنمية الشاملة والمستديمة.
* نقلا عن : لا ميديا