كان لدى الشارع اليمني رواية شبه كاملة عن قتلة الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي قبل أن تعدهم دائرة التوجيه المعنوي برواية كاملة موثقة ليسفر وعدها عن نصف رواية لواقعة الاغتيال.
قال عبدالله حسين الأحمر، في حوار مع صحيفة «الثقافية» 2004 ـ 2005 «وفي مذكراته المنشورة إن الولد إبراهيم الحمدي انقلب على حاشد بعد صعوده للرئاسة». ولعل الشيخ كان يعني بالانقلاب إصدار الحمدي لـ«قانون إصلاح أوضاع القوات المسلحة» وشروعه جدياً في تقليص «الجيوش البرانية» التي كانت تعمل لجهة الفضاءات الخاصة لسلطة مراكز قوى الظل بمحورية رئيسة لـ«عبدالله الأحمر».
قصة اعتكاف الشيخ في «العصيمات» احتجاجاً على الرئيس الشهيد وسعياً لعزله وإسقاطه، قصة شهيرة، ولعلها رُوجت كتغطية على دوره المباشر في الاغتيال.
إذا كان هناك نية جادة في فتح ملف اغتيال الشهيد الحمدي، فينبغي فتحه أمام القضاء، وتزويده بالأسانيد والوثائق والشهود حول الجريمة، دون قص ولصق لأسباب تتعلق بالحاجة لتظهير مجرم والتعمية على مجرمين آخرين.
حضر «بريه الفندم صالح» وغاب أو جرى تغييب «عمامة الشيخ الأحمر» عن مسرح الجريمة في رواية التوجيه المعنوي.
إن كون عبدالله الأحمر كبير المستفيدين في كشوفات اللجنة الخاصة السعودية، وعلى صلة متينة غير خافية بالديوان الملكي، هو قرينة كافية لوضع اسمه في صدارة المتهمين بجريمة الاغتيال، إذ ليس من المنطقي ولا المعقول أن تكون الرياض قد خططت للعملية خفية عنه ودون علمه وبلا إناطته بدور رئيس فيها، إلا بفرضية أن الشيخ كان أقل منزلة وأدنى حظوة ودرجة من أحمد الغشمي وعلي عبدالله صالح، في تراتبية سلطة العمالة للسعودية، أو أن علمه بالمخطط كان سيحول دون تنفيذه، وهما فرضيتان لا تستقيمان مع واقع العلاقة الحميمة بين الشيخ والمملكة، وسخطه على الرئيس المغدور، واعتكافه بغرض الإطاحة به...
وتقرير التوجيه المعنوي يخلص مما سماه «تحقيقاً استمر لنحو 3 أعوام»، إلى أن الأمر كان انقلاباً كاملاً على دولة الحمدي، وليس مجرد واقعة اغتيال شخصية، وهذا يعيد التأكيد على ضلوع كل أركان سلطة ما بعد الاغتيال في الانقلاب، سواء سلطة الواجهة (الرئاسة التي خلفت الشهيد) أو سلطة الظل (الأحمر كرأس أول ناظم لسلسلة رؤوس تؤلف مراكز قوى الحكم بالوصاية وتدين بالعمالة للسعودية).
ثمة أسماء أخرى متورطة في الاغتيال لم يأتِ تقرير التوجيه على ذكرها، معللاً هذه الفجوة الفاضحة في رواية الجريمة بانعدام الوثائق، وبناء الرواية القائمة على وثائق وشهادات (شهود) هي كل ما استطاع الوصول إليه بشق الأنفس، بحسب تعليله.
إن الغاية من فتح الملف المسكوت عنه ينبغي أن تكون القصاص لدم الشهيد بتظهير الجريمة وتجريم مرتكبيها واتخاذ الأحكام الباتة العادلة بحقهم، وإعادة الاعتبار لهذا الرئيس الوطني الرمز بعد 4 عقود من تغييب دمه ووقائع اغتياله والعمل الممنهج لمحو صورته من الذاكرة الجمعية الرسمية والشعبية بصعود القتلة إلى سدة الحكم كاستحقاق عن اغتياله، غير أن التوجيه المعنوي يسمي غاية أخرى لمعاودة فتح الملف، هي «إطلاع الرأي العام الشعبي اليمني على حقيقة اغتيال رئيس وطني ضحى بدمه في سبيل شعبه..». وهذه، وإن كانت غاية نبيلة، فإنها لا تدحض حقيقة استمرار تغييب العدالة بسرد أحداث وملابسات اغتيال منقوصة، وعدم إقامة الحجة على القتلة، ووضع نهاية ناجزة وسابغة لملف جراح لم يتخثر رغم 4 عقود من طيه وطمره، ولايزال ينزف في الذهن الجمعي لشعبنا اليمني الشريف، لاسيما وأنه ملف آمال وآلام يمنية استمرت سلطة الوصاية في اغتيالها بالتغييب والكشط والمحو نحو نصف قرن، لما تمثله هذه الآمال والآلام المختزلة في شخص إبراهيم الحمدي، من مشروع وطني طامح للنهوض بالبلد والشعب وتحقيق الحرية والاستقلال الناجزين بعيداً عن كرابيج وبيادات وعمائم الوصاية ومفهوم «الحظيرة الخلفية».
لقد أعادت ثورة الـ21 من أيلول/ سبتمبر 2014، الروح لهذا المشروع، باعتبارها امتداداً تاريخياً أصيلاً لآمال وآلام شعبنا اليمني العظيم، يصل ما انقطع من مسيرة الأشواق اليمانية، ويجمع شتات الصورة الزاهية التي جندلتها معاول الوصاية على مدى عقود وقرون، لتلتئم في خنادق التضحيات غير المسبوقة من حاضر ملحمة المواجهة المباشرة مع أرباب الوصاية الإقليميين والدوليين، ومن الغبن والغمط أن يجري ابتسار الرواية الكاملة عن هذا الملف الأكثر حساسية ودلالة شعبية وطنية، إلى بضع وقائع مسرودة بارتجالية تستهدف أمراً آخر أقرب إلى الإعلام السياسي، وأبعد ما يكون عن وضع نهاية ناجزة لملف القضية مكللاً بالعدالة الباتة التي تعوزها منصة قضاء ومصفوفة أسانيد سابغة للمسرح الجنائي الخاص والعام من «العصيمات وسنحان وهمدان إلى الرياض وتل أبيب وواشنطن وباريس»!
إن السؤال هو: هل برأت رواية التوجيه المعنوي ساحة عبدالله الأحمر من ولوغه المؤكد في دم الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي؟! بتأكيد ما هو مؤكد سلفاً من ولوغ علي عبدالله صالح في ذات الدم والجُرم.
يبدو الأمر كذلك للأسف بانتظار أن تفرج أجهزة الحكم الراهن عن نصف الكوتشينة الآخر من رواية الاغتيال أو «الانقلاب» كما ورد في أسانيد دائرة التوجيه المعنوي التي لم توجه سوى عنق التاريخ لحاجة في نفس «صانعي قواعد الاشتباك السياسي الاجتماعي» غير الثورية.
نقلا عن : لا ميديا