طوال عقود من الزمن ظلت اليمن تمعن في الغياب، وكانت الذات هي الحاضر الأقوى في كل التفاعلات التي جرت في الماضي أو تجري تفاصيلها في الحاضر، وبقدر إمعان اليمن في الغياب يكون الحنين هو الحامل الوحيد للانتماء وللهوية الوطنية والحضارية والثقافية، لقد خامرني يقين مطلق أن الغياب الذي نشعر به سيعمل على تكثيف عوامل الحضور ومهما تباعدت الرؤى وشط بنا « الأنا» المسافر في أدغال وغابات الآخر المغاير الذي يشعر بالاغتراب المكاني والزماني في هذه الأرض المباركة ويشعر بالخوف من يقظتها .
حتماً تعود اليمن كي تركز رايتها في أعماق الذات , تلك الذات التي تشعر بالامتلاء بعد أن ظلت زمناً طويلاً تدور في حلقة مفرغة وفي صحراء مقفرة لا نبات ولا نجم يهدي السائرين فيها.
لقد استبشرت خلال ما مضى من أيام بتلك المشاعر الوطنية وبفكرة الهوية التي غابت فكان غيابها تشظيا وحركة انقسامات شهدها واقعنا ، لقد رأيت يقظة اليمن في الذات وهي الجامع المشترك بين كل الأطراف، فالذي كان في أقصى اليمين أو كان في أقصى اليسار أو كان في ما بين أولئك يدرك أن اليمن هي الجامع المشترك وهي نقطة الالتقاء الوحيدة التي يفترض بنا الاتفاق أو الاختلاف حولها.
لا يختلف اثنان حول نقطة مهمة وهي أن كل المشاريع السياسية ذات الحضور والفاعلية في المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي الوطني هي مشاريع مغتربة جاءت من خارج النسق الحضاري والثقافي والاجتماعي الوطني وظلت تلك المشاريع طوال عقود من الزمن تمتاز بالجمود وكل مشروع من تلك المشاريع يقف عند نقطة مضيئة في تاريخه ولا يكاد يتجاوزها , ونحن لا نقول بضرورة العزلة ونفي التفاعل مع الآخر لكننا نقول بضرورة الاشتغال على الخصوصية الوطنية وضرورة التمدد في النسق الحضاري والثقافي والاجتماعي الوطني , ذلك أن الذات اليمنية ذات عصية على التماهي في مشاريع الغير , ولا يمكنها التفاعل إلا مع المشروع الذي تجد نفسها فيه، ولعل المتأمل للزمن التاريخي المعاصر يصل إلى قناعة بفشل كل تلك المشاريع في الوصول إلى نتائج إيجابية أو تحقيق القدر المؤمل من التمكين في البناءات الوطنية المختلفة.
اليمن بلد حضاري , وبلد يمتد في العمق التاريخي , وقد مرت به التجارب العديدة وما نحن غافلون عنه هو الاشتغال على البعد المادي والبعد الروحي في تلك الحضارة , وهو أمر لم يكن في كثير من الحضارات الأخرى ما عدا الحضارة الكنعانية وما سوى ذلك فقد كان اشتغالاً مادياً، ورمزية ذلك كائنة في التلازم بين الروحي والمادي في الحضارة اليمنية , إذ كان النبي هود والنبي صالح – عليهما السلام – هما التمهيد الأمثل للزبورية التي اشتغلت على ذلك التلازم وقد جاءت الزبورية اليمن وسبأ في أوج قوتها وتمكنها , ولم تذهب بلقيس إلى خيار المقاومة كما ذهب إلى ذلك أسلافها حين الغزو الروماني , لأنها وجدت تناغماً مع المشروع الثقافي الجديد القائم على ذات الخصوصية التي امتاز بها شعب سبأ في ذلك الحين، ولذلك تغلغلت الثقافة الزبورية في الوجدان الوطني إلى درجة الهوس والتماهي وهي ما تزال حاضرة بقوة في حياتنا المعاصرة من خلال الموروث الصناعي التقليدي , والمعارف التقليدية لحركة النجوم ومنازل الزراعة والأثر المترتب في العلاقة التبادلية بين الإنسان والطبيعة من حوله.
وحين بزوغ الإسلام في سماء العرب ذهب أهل اليمن إليه طواعية ولم يؤثر أن اليمن دخلت الإسلام بقوة السيف، بل ذهبت إليه بقوة الفطرة وبقوة هيمنة البعد الروحي الذي يمتد في الوجدان الشعبي منذ البدايات الأولى للتمدن الحضاري على تراب هذه الأرض وهو البعد نفسه الذي عمل على التمكين لليهودية ومن بعدها النصرانية.
وفي الدولة الإسلامية قاومت الذات اليمنية كل مشروع لا يتسق وطبيعتها الحضارية وقد تحدث التاريخ عن القيل الهيصم بن عبدالرحيم الحميري وعن غيره ممن قادوا حركة مقاومة في فترات مختلفة من التاريخ.. ودلائل التاريخ متعددة في هذا الباب وهي كلها ترمز إلى ذات عصية على الآخر وطيعة لذاتها أو لما يتسق مع سياقها الحضاري وطبيعتها الثقافية.
ومجمل القول: أن الأحزاب السياسية في اليمن مطالبة في هذا الوقت الفارق بمراجعة ذاتها وايديولوجيتها المغتربة ومطالبة أكثر بالاشتغال على البعد المعرفي والخصوصية الوطنية حتى تتمكن من الانتصار لليمن في البعد الموضوعي والحضاري والثقافي الذي يتجرد من «الأنا» المظللة، إذ الملاحظ من خلال تفاعلات القوى السياسية في سماء المشهد أنها تنتصر لذاتها ولا تنتصر لليمن.
في اليمن يمكن أن يقال أن المؤسسة المدنية بكل طيفها وكل تموجها مؤسسة هلامية وشكلية لا جوهر لها وهو أمر يتناقض مع طبيعة الحياة المدنية الحقة، إذ يفترض بالمجتمع المدني أن يكون فاعلاً ويمتاز بقدر من التجرد من الذاتية المفرطة فالمجتمع المدني هو في حقيقته سلطة موازية لسلطة الدولة ومحتك بها ومن خلال ذلك الاحتكاك يحدث التمايز ونشدان الأفضل والأرغد, ومن خلاله أيضاً يحدث الانزياح والتطور والانتقال والتغيير في البناءات العامة.
ومن الغريب في اليمن أننا بعد كل هذا الزمن من الانتقال إلى المجتمع المدني لم نجد مؤسسة مدنية نقابية أو حقوقية أو ثقافية أو سياسية يمكننا التعويل عليها وعلى تجاربها أو على تجردها وانحيازها للأهداف الكبيرة التي تشتغل عليها أو تدعي الاشتغال عليها إذ الثابت أن تلك المؤسسات تدار بمزاجية وذاتية مفرطة ويكاد هيكلها أن يكون فارغاً إلا من الصف الأول في القيادة فالتعطيل في البناء الهيكلي قضية شائعة حتى في الأحزاب وبسبب ذلك تحضر مصالح «الأنا» وتغيب اليمن .
ولذلك ندعو إلى الاشتغال على الهوية في شمول معناها لا في خصوصية الفكرة .