الثابت الذي لا جدال فيه هو أن القرآن كان معجزة الرسالة الخاتمة وطالما وقد حمل صفة الإعجاز فلا بد له أن يحمل صفة الاستمرار والتجدد مع كل الأزمنة والعصور والأمكنة والحضارات .
– ونكاد نجمع في جل أحاديثنا على أن القرآن لا يمل قارئه من تكراره ، كما يحدث معنا في غيره، لذلك فهو يحمل صفة التجدد في ذاته وموضوعه بما يحفظ معجزته عبر الأزمنة .
– ونحن نلاحظ في حياتنا المعاصرة الآن أن الاكتشافات العلمية التي وصل إليها العقل العلمي لا تتعارض مع القرآن بل نكاد نكتشفها في آياته، وهذا دليل حيويته وفاعليته ومعجزته الخالدة .
– إذن دعونا نتحدث عن الثابت والمتغير في حياتنا الثقافية الآن ومن خلال منطق القرآن نفسه .
فالثابت : لا يكون بكماله إلا في الذات الإلهية
( هو الأول والآخر والظاهر والباطن )
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )
وما دون ذلك فهو في منطور المتغير بدليل قوله تعالى ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) .
فالطبيعة والإنسان كلاهما يقعان في التغيير بحيث قد يحدث ذلك التغيير بين السنن والثوابت فيكون تغييراً منضبطاً قائماً على الحركة ذات القوانين الدائمة ، فالعلة المباشرة هي السنة التي لا تتغير ظاهراً، أما المعلولات المباشرة وغير المباشرة فهي من ضمن السنن المنظمة للخلق وقد اقتضتها إرادة الله .
– فالقرآن يطلعنا على نوعين من السنن والقوانين التي تحكم الكون والعالم من جهة، وإنسان هذا العالم افراداً ومجتمعات من جهة أخرى.
فالقوانين الأولى والطبيعية حتمية ولا تتبدل :
( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)
والسنن والقوانين الأخرى شرطية -إذا صح التعبير- أي أن حدوث المسببات معلق على حدوث الأسباب ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ4/95ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ 5/95إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) .
فالقوانين الأولى فيزيائية أو دائرية لا يداخلها الخلل ،وتترتب عليها آثارها تلقائياً ، أما السنن الإنسانية والاجتماعية فعادية لاتصالها بالإنسان الذي تتجاذبه عدة قوى رأسها الإدراك الواعي والعقل المدبر ، وأطرافها الأخرى العواطف والنزاعات والغرائز وقد ذكرها القرآن تحت مصطلح النفس والروح وما اتصل بهما من إمكانيات ودوافع .
حيث جاء في القرآن الكريم ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
فقد خلق الله الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وزوَّده بالعقل الذي تصقله التجارب، وأرسل إليه الرسل مبشرين ومنذرين ،فاجتمع للإنسان مرجعيتان للتدبر والتصرف .
المرجع الفطري تقوده الدوافع وتعقلها، والمرجع الإلهي الذي يطمئن ويهدي بالإيمان، وبإرادة الخير والتسديد والتغيير لا يكون إلا بالاستناد إلى الوعي والإرادة ، الوعي باكتشاف المقتضيات بمقتضى الاستخلاف هداية وعمراناً ونظراً للدارين فالآية القرآنية ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) تشير إلى أن التغيير سنة كونية دائمة ومستمرة في حياة المجتمعات الإنسانية وهو في أًوله يحقق ارتباط الأسباب بالمسببات .
وقد رأى بعض العلماء أن الناسخ والمنسوخ في القرآن يحمل دلالة تغير الأحكام طبقاً لمتغيرات الزمان، وقالوا: طالما كان الواقع متغيراً فالفكر يتغير بتغيره ،وقالوا إن الأحكام مرتبطة بالمكان والزمان أي بالمتغيرات ولا يضير ذلك الثوابت في شيء .
واستدلوا بما فعله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حين ألغى نصيب المؤلفة قلوبهم ــ وهو نص ـ كون ظروف المسلمين تغيرت من الضعف إلى القوة ويمكن أن يقال مثل ذلك في نصوص الجزية على غير المسلمين بعد أن ظهر مفهوم الوطن والمواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات .
وقالوا إن الثابت هو مقاصد الشريعة وتختصر في الضرورات الخمس وهي :
– الحياة ( النفس ) .
– العقل ( العلم ) .
– والدين ( المعيار الثابت ) .
– والعرض ( الكرامة الفردية والجماعية ) .
– والمال ( الثروة الوطنية ).
والمتغيرات هي الحاجات والتحسينات طبقاً لظروف كل عصر .
لذلك فعلوم القرآن القديمة يمكن أن تأخذ دلالات جديدة ، فأسباب النزول مثلاً لا تعني فقط التنجيم بل يمكن أن تعني أولوية الفكر على الوقائع والسؤال على الجواب، وعلوم التفسير لا أظنها من الثوابت بل من المتغيرات فالتفسيرات التاريخية أو اللغوية أو الفقهية أو الكلامية أو الفلسفية أو الصوفية ليست تفسيرات مقدسة بل هي اختيار واجتهاد أهل الاختصاص في هذه العلوم واهتمامهم بها .
ويمكن تفسير القرآن وفقاً للعلوم الإنسانية الحديثة ، علم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد أو الأخلاق والتربية، كما يمكن تفسير القرآن في نسق واحد من أجل إبراز النظريات الإسلامية في العلوم الحديثة طبقاً لما جرت الدراسات الفلسفية المعاصرة عليه .
وحتى نجتاز عقبة التقليد ، وشيوع النقل ، وتعطيل العقل ، والاتجاه نحو الماضي، لا بد من تفعيل العقل الصالح المتغير وفقاً لضوابط أصولية جديدة تأخذ باختيار المالكية للمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب والاستصلاح وكل أشكال الاستدلال الحي، قواعد قد تكون إلى حد ما متوافقة مع معطيات العصر وخاصة إذا ما استوعبنا التراث الفكري وأخذنا من كل اتجاه ما يتوافق معنا وأضفنا إليه .
فالحياة الآن تغيرت من المصالح الفردية إلى المصالح العامة دفاعاً عن أراضي الأمة وثرواتها ووحدتها وهويتها وتنميتها ، وتحقيقاً لمبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية ،وهذا يتطلب مالكية جديدة ، وتغيرت مناهج الاستدلال من القياس الأرسطي القديم إلى قياسات وجدانية أخرى وهذا يتطلب حنفية جديدة ، وتحولت الوسطية إلى أيديولوجية نظم الحكم ، بعد اتهام المعارضة أياً كان توجهها بالعنف مما يتطلب شافعية جديدة ،وأصبح النص الخام عبئاً على الحياة الاجتماعية والسياسية ووقع في الحرفية والشكلية والصورية عند الجماعات السلفية مما يتطلب حنبلية جديدة مدركة وواعية للحظتها الحضارية الجديدة والمتغايرة عن الماضي .
خلاصة القول إن القرآن معجزة كل العصور والأزمنة ولا بد من قراءته وفق مفردات كل عصر وكل زمان، فهو قادر على تفسير كل الظواهر من حولنا كونه يحمل صفة الإعجاز في ذاته .
وما أشد حاجتنا إلى التغيير والتجديد حتى ننفض غبار الأزمنة ونعيش زمننا الذي نحن فيه .