هناك أشخاص ومجتمعات كيفت حياتها على ثقافة الانتظار كمبدأ فلسفي وأخلاقي من وجهة نظرها. لكن الشاعر وليد الحسام خالف كل أولئك واتخذ اتجاهاً مغايراً هو اللاانتظار، لأنه رأى في اللاانتظار حلا لإشكاليات، أو لأنه رأى في الانتظار إشكاليات يجب حلها، ليس من باب المخالفة أو من باب معرفة الشيء بضده، ولكن لرؤى عميقة لديه.
وفي سياق سرده تفاصيل هدوء اللاانتظار أيضاً بالمقابل يضمر انتظار الارتقاء في فسلفة عميقة تجمع بين ما يريده لمجتمعه وبين ما يريده لروحه في نص بديع هو أشبه بالنصل/ الحسام الصقيل ذي الحدين، وعلى هذا الاستنطاق الضمني تجلت مقامات ارتقائه.
«لا تنتظرْ شخصاً رآكَ، وأهملَكْ
أنْ يسألَ الأيامَ عنكَ ويسألَكْ».
يستهل الشاعر مقاماته الإحدى عشرة بهذا البيت، مبيناً حزناً للإهمال الذي يلاقيه المبدع من كل ما حوله، في إشارة ماقتة للنزعة الأنانية التي تعتري السواد الأعظم، وفي رغبة ماسة في تجاوز هذا العالم المادي إلى عالم أكثر اهتماما هذا الأخير متجرد من كل ما سبق، إنه عالم الخير والجمال والخلود. وإن سلوك ذاك السائد اللااهتمام. وأن ما يبديه البعض من اللطف قد لا يفيد إلا في دائرة الشكلي. إذا لم نر الأبعاد الفلسفية في هذا النص لن نفهمه إلا شكليا مثلما قد يبدو للوهلة الأولى، فقد يظن أن الشاعر سئم الواقع، وتشاءم من كل شيء، لكن له في خفايا النص توق وإلحاح إلى عالم الجمال العلوي، ذلك لأن هناك حياة أكثر مثالية.
«لا تنتظرْ أحداً يفكّر كيف لا
يعطيكَ وقتاً كي ترى مستقبلَكْ».
إن المستقبل الذي يراه صوب عينيه كامن في ارتقاء روحه مع الشهداء، لقد كان تواقا إلى الشهادة، لكن الأجل حال دون تحقيق أمنيته. وقد كان يرى في الشهادة اكتمال الإنسانية. يقول في إحدى قصائده:
«نِلْتَ اكْتِمَالَكَ يَا شَهِيدْ
عَرَجَتْ بِرُوحِكَ
فِي السَّماوَاتِ المَلَائِكُ
وارْتَقَتْ بِكَ لَهْفَةً
حَتَّى بَلَغْتَ المُنْتَهَى
حَيَّاً.
سَمَوتَ إِلَى الخُلُودْ!»
«لا تنتظرْ وطناً حمَلتَ هواهُ في
أغلى الدِّماءِ، وقد أبى أنْ يحملَكْ».
في هذا المقام يرى أنه عندما يأبى الوطن أن يحملك وقد حملته في أغلى الدماء بصيغة الجمع كدلالة على أن دماء الشهداء كلهم أغلى الدماء، بما فيها دم الشاعر، وأنهم جميعاً يحملون الوطن في أرواحهم ويتقاسمون حبه ويحملونه في قلوبهم بالقدر نفسه، وإذن فلا داعي للبقاء خارج السرب، وأن عليه الانضمام إليهم في أقرب فرصة.
ما إن يرحل فيلسوف يدرك الناس حجم الكارثة. وبالنسبة له فإن الفترة التي سبقت الرحيل كانت أشد حساسية وإدراكاً لكل ما حوله وحسباناً ودقة ربما رآها بسوى مقاييسها الأرضية، لأنها لحظات تجلٍّ، زد على ذلك كونه يعد نفسه ليكون في عداد «الأحياء»، يروي بأعرافهم الأحوال. لقد طرح الشاعر إشارات عديدة ملحة على المغادرة، لكننا لم نتنبه لها، فقد قال:
«لا تنتظرْ قلباً يحنُّ عليكَ إنْ
جارَ الزمانُ، وبالمواجع أثقلَكْ
لا تنتظرْ أملاً مِن الدنيا، ولا
تسمحْ لها، ولزيفها أنْ يشغلَكْ».
يتجلى الزهد والورع في ثنايا وتحت ظلال حروف هذا الحكيم الجليل، وتظهر خبايا صدره الحنيف على هيئة زخات عرفانية تنثال في النفس كالعطر، يسوقها لا بلسان واعظ ولكن بتراتيل نبي، ما الذي يكن لمجتمعه من النبل هذا الشيخ الذي رحل شاباً متلفعاً بشموخ اليمن، ومضى وكأنه يشق صحارى مغطاة بالثلوج، مذيباً الأفق بعصاه كأنه يرسم في الفضاء خارطة جديدة للأرواح الآتية على أثره؟! ها هي آثار أقدامه تركها في كثبان أحزاني أعدها كوصايا عشر، أتأملها خطوة بخطوة، الآن أجثو على ركبتي كي أستريح من عناء السفر قليلاً، ثم أنهض نحوه.
«لا تنتظرْ حلماً يراوغُ لهفةً
في مقلتيكَ ليستبيحَ تأمُّلَكْ».
بين مفهومي الحلم والتأمل في لحظات اليقظة نرى أن التأمل طقس يومي يستوحي خلاله الشاعر أفكاراً من شأنها إسعاد الجميع، وفي وصاياه النبيلة الموجزة، وفي حين يترصد حلم تلك التأملات ترصد المستبيح المحترف. هذه دعوة للعمل بجد ومشقة وترك مراوغات النفس.
«لا تنتظرْ صوتَ الحياةِ وإنْ شدا
لحنَ انفعالِكَ مرةً، أو زَومَلَكْ».
صوت الموت هو العالي في هذه الدراما البطولية مع صوت الحياة، وعلى ذلك يخرس كل المتشبثين به. أتخيل أنصار صوت الحياة يسيرون في مظاهرات حاشدة لحجب صوت الموت عن الوصول لمركز القيادة، صوت الموت المضمر في البيت الذي يعزفه الشاعر بلحن صاخب هو الشعار الذي يقض مضاجع الغزاة في قعر نفوسهم وعمق سلطناتهم. هكذا يتصدر المشهد صوت الشاعر الجهوري وهو يصرخ بالموت للغزاة غاضاً عن الإغراءات الصوتية والألحان التي تنادي متلبسة صوت التراث في حين أنها تضمر ألحان «الراب» الأمريكية: إنه صوت الموت الذي يحمل في طياته الحياة.
لا تنتظر
لا تنتظرْ شخصاً رآكَ وأهملَكْ
أنْ يسألَ الأيامَ عنكَ ويسألَكْ
لا تنتظرْ أحداً يفكّر كيف لا
يعطيكَ وقتاً كي ترى مستقبلَكْ
لا تنتظرْ وطناً حمَلتَ هواهُ في
أغلى الدِّماءِ، وقد أبى أنْ يحملَكْ
لا تنتظرْ قلباً يحنُّ عليكَ إنْ
جارَ الزمانُ، وبالمواجع أثقلَكْ
لا تنتظرْ أملاً مِن الدنيا، ولا
تسمحْ لها ولزيفها أنْ يشغلَكْ
لا تنتظرْ حلماً يراوغُ لهفةً
في مقلتيكَ ليستبيحَ تأمُّلَكْ
لا تنتظرْ صوتَ الحياةِ وإنْ شدا
لحنَ انفعالِكَ مرةً، أو زَومَلَكْ
لا تنتظرْ أنْ تستغلّكَ فكرةٌ
آمنتَ أنَّ بها ضميرَكَ أرسلَكْ
لا تنتظرْ يوماً يجيئكَ فيه مَنْ
يحيا، ولمْ يعرفْ مَدى أنْ يجهلَكْ
لا تنتظرْ شيئاً يُذلُّك لحظةً
لا شيء غيركَ يستحقُّ تذلُّلَكْ
لا تنتظرْ أبداً، وإنْ شِئْتَ انتظرْ
حتَّى انتظارُكَ قدْ دعاكَ ليقتلَكْ!
13 ديسمبر 2021