|
البعد المكاني في قصيدة «النهدات» لعلي جاحز
بقلم/ يحيى اليازلي
نشر منذ: سنتين و 8 أشهر و 6 أيام الجمعة 18 مارس - آذار 2022 10:27 م
«أُفتّشُ عنكَ في أملٍ تولّى». الفتش يكون للشيء المغطى، لكن التفتيش عن الشيء المخفي بعناية في مكان ما. و»أفتش عنك «في أمل تولى»، «أمل تولى»! والذي أعرفه أن الأمل يأتي في المستقبل فكيف نفهم «أمل تولى»؟! إلا إذا المقصود بـ»تولى» تقلد منصب الولاية، أي صار ولياً حاكماً أو أن المقصود بـ»أمل تولى» ذكرى تولت ولكن بقي لها أثر هو في المقدمة حيثما ولى وليت، هكذا المهم ومن باب الترجيح أفتش عنك في ذكرى أمامي لا تبارح عيني وفكري، هذه الذكرى ثمة طارئ حجبها عني!
«وفي صبح يفرُّ إذا تجلّى». وفي صبح يفر، كلما تجلى لي فر، لأنه يدور كالشمس بالمنطق الكوني، وأنا نازح مكاني، والمعنى أنه أبعد من إدراكي في حالة أنه يريد الصبح تجلى لي، أو أن المعنى أعمق من إدراكية في حالة أنه يريد تجلية الصبح والعبرة في لا إدراك معنى الذكرى لكونها قوية جداً، وبهذا نكون قد وصلنا إلى بيان صورة شعرية بصيغة ذهنية تجريدية.
«وأستجدي مجيئكَ في خيال». كيف يطلب أحدنا مجيء شخص مهم وقد رحل؟ أستجدي مجيئك يا أيها الأمل الذي توليت في خيال! من الذي يجيء بالآخر، الذكرى أم الخيال؟ ماذا لو كانت العبارة: «وأستجدي خيالك في مجيئك وأنت الذكرى»؟! مستحيل أن تكون هذه الأخيرة قوية، لأن في معناها نسيان ملامح الذكرى، والأولى أقوى، وفيها بيان قوة ملامح الذكرى واستحالة نسيانه. والناتج من هذا التحليل أن الخيال جدوى تتم عبر آلية خارج الوعي، وناتجه كمدرك كلمي شعري سيبين صورة الأمل الماضي في الوعي، ما يعني أن بصمة الروح لا تمحي في الوجدان، وتظل بنفس الصيغة الفاعلة خارج إطار الزمن، فسواء ماضيها وحاضرها ومستقبلها، هي الحياة التي لا تحد بجدران ولا يقدر عمرها بحركة أجرام، نقول وعلى اعتبار أن الإبداع الشعري نتيجة اعتمال معادلة شعورية في الوعي هذه النتيجة هي الحقيقة الإبداعية التي صاغها الشاعر ليعرفها من حوله، فمن أدركها وعاها ومن وعاها عرفها ومن عرفها صاغها على الصفة التي تناهت في ذهنه.
«يُريني وجهك الناريَّ ظلاّ». حين تتمكن من أن تستظل في النار ستفهم أنك إما في حالة عرفانية خاصة قطعت الحجب وإما أن هناك إعجازاً كونياً عاماً إما أنك ولي سرك باثع وإما أن الموضوع متعلق بتطور حضاري وفعل إنساني في الجانب الوجودي استطاع فهم وتطويع الحقائق العلمية.
«وأبحث عَنكَ في أفق حزينٍ». ما يزال البحث جارياً هذه المرة يبحث الأستاذ علي في الأفق ثم ماذا وأين يا ترى خبأت ما تبحث عنه ثم نسيت أين؟ يا لاقي الضايعة! لو أنك كتبته في مذكرة لوفرت على نفسك العناء. يقول «سول حمزاتوف: «لا تُخبئ أفكارك، إذا خبأتها ستنسى فيما بعد أين وضعتها».
«فيغريني أفولكَ أن أكِلاّ». ثم يحدث أفول من حيث لا أفول. كنت أعتقد لكثرة بحثه وتفتيشه عن ضالته أن الشاعر يريد إنهاء معاناته في هذا الشطر من البيت، لكنه في البيت التالي يصدمنا بأنه يعيش حالة انتشاء وتلذذ بما يقوم؛ به وكدت أظنه تعمد إضاعة المكان الذي يخبئ فيه أسراره.
وأتبع رغبتي البلهاءَ علّي
أرى لي في اتّباع التيه حلاّ
أنا الباكي على أطلال وهمٍ
فمن يبكي عليّ الآن أصلا؟!
أنا الباكي على أطلال! هذه مهضومة، لكن «أنا الباكي على أطلال وهم» هذه تحتاج وحياً لبيانها، فالأطلال مشخص والوهم مجرد، إذن فـ»خيال» تعني عجيباً وخيالاً خارج وعي الشاعر كما فهمنا في البيت الثاني: «وأستجدي مجيئك في خيال يريني وجهك الناري ظلا»، فيه أثر لأحباب قد رحلوا فصار أطلالاً، فالشاعر يقف عليه باكياً أطلالاً في الوهم، «أطلال وهم»، وبكاء في الواقع عجيب.
إن افتراضات الشاعر غالباً أشبه برياضيات الفيزيائي، هي افتراضات لكنها تظل مهمة جداً، لأنها ستفضي في نهاية مجريات المعادلة إلى حقيقة افتراضات رقمية عدمية غيرها أبجديات روحية لن نعدها عدمية لأنها في عرف الشعر الخيال، وإن كان الخيال له محفزات وجودية ووجدانية، ولنعترف بها جميعا كإيحاءات حقيقية، لأن بعضها وإن كانت ما تزال فكرة تختمر في الوعي الشعري إلا أن بإمكانها وهي في طور التخلق إثارة بكاء الشاعر قبل أن يبكيها، وإذن فللفكرة أحوال حقيقية مؤثرة وهي في طور التخيل، لأن أبجديات العقل الشعري غير أبجديات العقل الرقمي.
«أحدّق أسأل النجمات عمّنْ». انتقلنا إلى طور التحديق من طور التحليق في العمق، إنه تحليق في العمق فعلاً، بالشكل الذي يوصل معنى التحليق الشعري بوسيطة مشخصة هي التحديق، وإلا فالأمر خاضع لوسائل مجردة من شأنها إيصال مفاهيم غايات أكثر تجريدا ويسأل النجمات وفي جدران روحه يترجع صدى يخترق سبعاً طباقاً يقول أسأل النجمات فيهبط من مقام التجريد لمقام العطر إنه أرى ونحن نشم ريح يوسف مختمراً في أغصان نجمات. وإلا فنحن في مدارية نبوءة لا تبعد عن مدار يوسف بوصة وحضور الشاعر في دائرة التأويل يؤهله لهذا المقام وإلا كيف ندرك المسافة الخيالية بالمفهوم الزمكي بين رؤيا أسأل النجمات وبين تأويل الرؤيا «أنخت بهم»؟ هذا ضرب من رؤيا يوسف بين نبوءة: «إني رأيت أحد عشر» وبين تأويل: «رأيتهم لي ساجدين» تماماً.
«أنختُ بهم أساي فصار حملا». بعد «أسأل النجمات» حدث تحول مداري كوني لا يدركه إلا الراسخون في الكلم «أنخت بهم» انتقالة ذهنية ما فوق بلاغية، وسبق ضوئي صادر عن شاعر يملك نقاء وطفولة ويوسف، أحدق أسأل نجمات أحلامهم كعذوق نخلة أنخت بهم أساي وهنا وصلت بالأسى منتهاه وانتهت بالإناخة لتبدأ البسمة.
«أشقُّ لبسمة الدنيا طريقاً». من هنا اتخذت القصيدة تجليات أقوى فانبثقت ضياءات الوجد منها كعرى النجم الكبير، ووضعت لطاقاتها سقفاً أعلى لتصور المجردات.
ثم ماذا بعد أن أناخ ناقة الأسى على عتبات نخلته العالية؟! النهدات تلقي إرهاقات الرحلة تحت ظل عذوقها النظرة. إرهاصات القصيدة تستمد الحيوية من بسمة الأمل اليانعة، يدليها الظل الباسق رطباً جلياً، الأمل الممتد في الوجدان كماء في بئر، ظل الأمل الغائر في الأفق كصراط مستقيم، هكذا نعكس تفاعلات الخبيء مع البائن ليبرز المبين، لأن امتداد المعنى غير امتداد اللفظ، منطق الغيب غير منطق الشهادة، ولكليهما منطق مختلف عند العلام.
إلى أوقاتهم فيقالُ: كلاّ
وأعصر مهجتي لهم دواء
وهم تيها يرون الداء أحلى
حينما يتنشق المحارب غبار المعركة ينتقل للتو إلى مرحلة جديدة من عشق الرحيل، وإلى مقام أعلى من سفر المعراج، فيصر على ترقيه في العشق إلى أن يرد روحه الماء الأعذب والهواء الألطف والهوى الأقدس الذي يلائم كيفيته المتولهة.
لقد أنهكتَ يا سَفَرَ المآسي
مسافاتي تُذيقُ الجدّ هزلا
أحبك مرةً وأمدُّ ألفاً
من النهدات مرهقةً وقتلى!
إنهاك المسافات من أجمل الصيغ الشعرية التي تشد الحواس جذباً، ثم تسلب اللب إدهاشا. إن في النهدات بيت القصيد وفي بيت القصيد سكن المعنى وفي المعنى يحل الإبداع وبحلول الإبداع تدوم القداسة.
* نقلا عن : لا ميديا |
|
|