يمكن قبول أشطار أبيات قصيدة «برق صنعاء» للشاعر كريم الحنكي بشكل عمودي كنص مستقل، وكذلك أعجاز أبياتها هي الأخرى يمكن قبولها كنص مستقل. لا أظن أن الشاعر تعمد كتابتها بهذا الأسلوب، وإنما جاءت بتلقائية. وحتى إن تعمد فسأعتبره متفوقا ببساطته وتلقائيته على شعراء اشتغلوا على فن زخرفة وتنميق وتشطير أو تخميس القصائد. ومن جماليات هذه القصيدة أنها يمكن أن تقرأ كثلاثة نصوص بعين الإحساس. لست مع التشطير أو تخميس القصائد، ولا الزخرفة بالسجع والرجع والوقع وإرهاق العقل باللزوميات؛ لأن هذا الأمر يعيق تدفق الشعر، ويجعل القصيدة تبدو كعروسة خارجة من محل كوافير. ولست مع إسهاب كتابة إيحاء اللاوعي إلى حد يجعله كالهذيان. وإذن، فمن الممكن الاشتغال على النص الشعري بمزيج من الوعي واللاوعي، وبشكل يخلق إبداعا منسجم الجوهر والشكل. إن ماهية المضمون تحدد شكله، وتميز المضمون يميز الشكل بقدر ذلك التميز. وهذا يعتمد على سعة الشاعر الثقافية في الشعر وفي الأدب وفي مختلف المجالات، وكذلك على خبرته وممارسته كتابة الشعر.
إن شطر القصيدة: «ما لمع برق صنعا الا سقى النفس ماها»، وما تحته من شطور القصيدة، مفعم بالمفردات والمعاني التي تحاكي بذكاء لهجة بحر تهامة وطقوسه، فهو من بحر عروضي معين على وزن «فاعلاتن فعولن فاعلاتن فعولن»، في سرعته ونزقه وموسيقاه، وقافيته الهائية أقرب إلى الرئة وتناوب زفيرها وشهيقها، وشبيه باخضراره الغامق وصوت إنسانه الحاد المرح وأمواجه الهادئة المسرعة بنحو متناوب، ويناسب أنغامه وأنغامه المجاورة.
أما عجز البيت وما تحته من أعجاز أبيات النص فمن بحر ثان، هو البسيط، مع زيادة حركتين في آخره: «مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلاتن». يشبه بحر عدن، في طوله وسعته وأمواجه وزرقته الفاتحة وهدوئه ومده وجزره المتناوب. هذا البحر المناسب بدرجة كبيرة لعزف أنغام الدان.
استطاع الشاعر أن يرسم وجدان النص ونص الوجدان بشعرية الجغرافيا والتاريخ والمجتمع اليمني كله بهذه الحيوية المختزلة والمكثفة والسلاسة والعذوبة والقوة والبأس معاً، وفي هذه القصيدة الميدانية الطربية معاً. ألا تلاحظ وحدة مفرداتها ودلالات رمزيتها؟! أنت هنا إزاء قصيدة تحاكي الموروث الثقافي والأخلاقي والديني والحربي والسلمي معا. أنساق قادمة من العمق الحضاري والاستباقي في الوجود والمجد والعزة للإنسان اليمني مفتوحة على عصر التكنولوجيا وهذه الحرب التي تدفن اليمن فيها الغزاة كما دفنت فيها أحفادهم، وبما يؤكد حتمية انتصاره من ذلك اليوم إلى أبد الآبدين. قصيدة عابرة الأنواع الشعرية شعبية ونخبوية فصحى وعامية طربية وتحفيزية.
في هذا البحر الأبيني استبقى الشاعر في ضميره فن «الدحيف»، وهو من فنون الدان الشعبي في أبين. وفي ذاك البحر التهامي العربي استحضر في ذهنه فن الزامل، وهو من فنون الشعر الشعبي مما يلي تهامة.
نص مشبع بالموشح الصنعاني، وفي الوقت نفسه مشبع بالموشح العدني، وبهذه وتلك من قصائد الحب والسلام. وبالمقابل تحتل قصيدة الحرب موقعا مهما في حياة اليمنيين، مصداقا لحتمية الحرب من أجل السلام.
ولدينا قطفة قرائية من نصه تناسب المحتم من مواجهة العدوان على اليمن، مثل «ما لمَع برق صنعا الّا شفا النفس ماها»، «برق صنعا»... تظل النفوس عطشى حتى ترى لمعان برق صنعاء، الذي هو القوة الصاروخية حين تطلق صاروخا باتجاه العدوان، و«حيَّرت الَاوّلات ابصارهم في عماها» فـ«ابصارهم في عماها» تناص مع المتنبي في قوله: «ويسهر الخلق جراها ويختصم».
وأساليب جناسية جميلة مثل: «سرها يا المسير»، «ظبي ابوظبي كنّه قد شرد من حماها»، «ما لقي شي مكنَّة آمنة في دماها»... وتناص مع «مطر مطر والظبى بينه تدور مكنة»، «وانفاسها روّحت روحي بخـاطر شجاني»، «لا قد بدا صار مجنيها الذي كان جاني»، «يحمل لصهيون زايـد زايدات المعاني»، «والكبر مهما عليها اسرف، وطي بالتداني» (التداني: الوصل؛ استثمارا للمثل الشعبي القائل: «الكلمة الحالية تكسر العود اليابس»)، «ما الثالثة ثابتة تعقب لهم شغل ثاني»، «الثالثة ثابتة» (هناك مثل يقول: «الثالثة ثابتة»، توظيف المثل الشعبي أيضاً)، «من حيثما راح يِسدَى له مجنّح يماني» («يسدى له» كخدمة تخلصه من العذاب، ضربة صاروخ يماني مجنح)...
إذن، فلدينا ارتواءات تناصية بالفؤاد مع الطبيعة، الإنسان والبحر، يجسدها التباين العروضي والموسيقي، وتناصات امتصاصية مع الشعر والمثل الشعبي، وتقاطعات بديعة مع التاريخ والدين والفنون... لدينا محارب سبئي قديم وأنصاري يماني معاصر، ومثقف وشاعر ومرشد أدبي مبدع اسمه كريم الحنكي.
كريم الحنكي وحدوي توافقي عقلاني وشاعري في أنماط كثيرة من حياته الإبداعية. فحتى وهو محكم في مسابقة شعرية يقوم بعمله بشعرية عالية، من خلال مواءمته بين منهج أدبي وبين منهج انطباعي، ببرزخية ناعمة عصية على الإشكال، مكنته من العبور من ضفة كلاسيكية المنهج إلى ديناميكية الواقع، دون أن تشعر بفارق حيوي. ومن خلال متابعتي له في مسابقة «شاعر الصمود» بمواسمه الثلاثة، ولأعضاء لجان التحكيم كلاً على حدة، خرجت بشخصية فريدة تحمل الصفات المشتركة التي لا يصح إلا أن تكون لدى اللجنة. فكان كريم الحنكي الناقد المحكم الأوسط المشترك لجميع المواسم. وليس في هذا استنقاص من بقية أعضاء لجنة التحكيم، أبداً، ولكن شخصية كريم هي التي من خلالها سنعرف معايير النقد المثالية التي يجب أن تكون في الأعمال التلفزيونية القادمة. فكان بينهم كأنه مجمع الناقدين الخاص بتقييم وتقويم الشعر الشعبي المناهض للعدوان. هذا بالنسبة للجانب النقدي الفني، وهذا راجع لكونه شاعرا ناقدا ويعيش الشعر والنقد في واقعه ويحياهما. فقد كان كريم الحنكي همزة الوصل الأمثل لتوافق وتقارب الرؤى بين لجنة التحكيم الأكاديمية ولجنة التحكيم الانطباعية.
لا يمكنك الخروج من جو حار إلى جو بارد مباشرة دون أن تصاب بالبرد والحمى، والعكس، بدون المرور بينهما بجو وسيط. كذلك تحويل سرعة السيارة من السرعة الخامسة مثلاً إلى السرعة الثانية لا يتم بشكل سليم دون المرور بالسرعة الرابعة والثالثة والعكس. كريم الحنكي، ومثله الشاعر أمين أبو حيدر، كلاهما متفرد في نقل القارئ من بحر عروضي شعري إلى بحر شعري مختلف في نص واحد دون أن يشعره بالفارق المناخي. فيما يتعلق بالاشتغال على النص بفن معماري عالي الطراز، يمكنه كتابة نص بأكثر من بحر عروضي بتقنية عالية والانتقال من بحر إلى آخر بحرفية مبهرة محافظا على وحدة النص، وكذلك احتواء أكثر من نوع شعري في عمل واحد. وهذا واضح من خلال هذا النص ونصوص أخرى له مثل قصيدة «كأس المسرة» وهي من المديح النبوي تلمس فيها تمكنه من ناصية التفعيلة وصياغة القصيدة بأساليب عابرة للأنواع الشعرية، الأمر الذي يكسر بصورة خاصة ما ذهبنا إليه في رؤية سابقة عن أن كل نوع شعري له خصوصيته وإن كان الموضوع الشعري نفسه وحتى إن كتبه الشاعر نفسه. وهذا يعني عبقرية الشاعر الحنكي.
بـــــرق صنعــــــاء
ما لمَع برق صنعا الّا سقا النفس ماها
وانفاسها روّحت روحي بخاطر شجاني
لا العـوادي تبـدّلها وتمنـع نماها
والكبر مهما عليها اسرف، وطي بالتداني
سرها يا المسيّر من رسايل سماها
لا قد بدا صار مجنيها الذي كان جاني
جلّ من في المداين عَزّها ما كماها
سبحانه الكافيَ احراره بَلا كل شاني
ثالث اسبوع واعصار اليمن مِن لماها
يحمل لصهيون زايـد زايدات المعاني
حيَّـرت الاوّلات ابصـارهم في عماها
ما الثالثة ثابتة تعقب لهم شغل ثاني
ظبي ابوظبي كنّه قد شرد من حماها
قُـدا الفجيرة، ولمّا خور فكّـان، عاني
ما لقي شي مكنَّة آمنة في دماها
من حيثما راح يِسدَى له مجنّح يماني
لا رمى من حمى داره صرع مَن رماها
ما يخطي الا عَمَد، يا كل قاصي وداني
وان عزم حيث ساق الذعر ينبش ظماها
ما باتفيــد النـدامة خـاويات المباني!
* نقلا عن : لا ميديا