من محاسن كل التموجات التي حدثت خلال السنوات الماضية أنها حاولت أن تعيد الحقيقة إلى مكانها الطبيعي، وأن تقول للناس إن العبودية لن تكون هي الحرية التي يستلذ وجودها الانتهازي، وقالت تفاصيل الأحداث للمستعمر الجديد إن فرض الهيمنة على الشعوب الحرة من الصعوبة بالمكان الذي تعجز عنه الأسلحة المتطورة والحديثة، وأن وعي الشعوب لم يعد بالمستوى الذي يمكن النفاذ من خلاله فقد تجاوز مراحل السذاجة وعدم الفهم إلى مراحل متقدمة، بدليل أن كل خبراء علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي فشلوا في تسويق فكرة التحرير التي يضمر المستعمر الجديد تحت شعارها أهدافه منها، وهذا الفشل الذي تحطم على صخرة الحرية الثورية كان نتاج الوعي الثوري الذي أحدثته الثورة اليمنية سبتمبر / أكتوبر، ولذلك سيكون المستعمر الجديد عاجزا عن بلوغ أهدافه .
اليوم تمر الذكرى التاسعة والخمسون لثورة ( 14 أكتوبر 63م ) وهي تفرض سؤالا وطنيا كبيرا، وسؤالا حضاريا وثقافيا بالغ الأهمية، بعد أن تحول المفهوم عن مضمونه الثقافي والاجتماعي والحضاري ليصبح تبريرا لغازٍ جديد يلبس شعار التحرر ويمارس غواية الاستغلال الذي كان يمارسه المستعمر القديم من خلال فرض هيمنته العسكرية والسلطوية على مقدرات اليمن ومواردها الطبيعية ومنافذها، ومن خلال جرف الحياة الطبيعية في سقطرى وزرع القواعد العسكرية، ومن خلال استغلال حالة الفوضى في إقامة مشاريع حيوية في الموانئ، كما يحصل ذلك في المهرة .
لقد تحدثت التقارير الدولية عن ممارسات غير إنسانية، ومصادرة للحقوق والحريات، وتنكيل في سجون مستحدثة بذات السيناريوهات التي كانت تحدث في سجن “أبو غريب ” في العراق وكأن المؤلف والمخرج هو نفسه، وهو في الحقيقة نفس المخرج كما تدل مذكرات هيلاري كلينتون، لكن الذين يستغرقون أنفسهم في خضم التفاعلات لا يدركون أو أنهم يدركون ولكنهم آثروا استغلال المرحلة لتحقيق أمجاد سياسية أو مالية، بالمعنى القريب “انتهازيون ” فاليمن اليوم بكل مبادئها التقدمية والطلائعية والثورية تتحرك بين فكي انتهازي ذكي بدون دين أو قيم أو أخلاق وبين متدين بدون وعي وفكر يتحرك في فضاء تاريخي تجاوزته المستويات الحضارية المعاصرة .
العالم الذي يرتبط بمصالح في الجغرافيا العربية يتبع سياسة واضحة ويبني استراتيجيات تهدف إلى ضمان مصالحه، والحال الذي عليه العرب اليوم نتيجة منطقية لتلك الاستراتيجيات والسياسات، ويبدو أن العرب من الغباء بالمكان الذي جعل منهم دمى تتلاعب بها تلك المصالح دون إدراك واعٍ بمصالحهم، فالجهل المقدس صناعة استخباراتية عالمية تقبّلنا واقعها بدون سؤال، وسرنا في طريقها دون وعي، وأصبح الوعي غائبا من جل تفاعلاتنا اليومية، فنحن نقتل ونرقص على الأشلاء بفرح المغامر الذي لا يغامر، وبنشوة البطل الذي ليس بطلا، لفقدان المعيارية الأخلاقية والثقافية .
اليوم تطرح ثورة أكتوبر في عيدها التاسع والخمسين سؤالا وجوديا، وتطرح سؤال الاستقلال من جديد، فقد عاد المستعمر إلى أرض الجنوب وأعلن عن نفسه في شوارع ومدن حضرموت، وفي شواطئ المهرة، وفي عدن والجزر اليمنية دون قناع، وقد كان على مدى سنوات العدوان السبع يتخذ من البشت السعودي والإماراتي غطاء يستر من ورائه أهدافه، وبعد كل هذه السنين خرج إلى شوارع المدن في الجنوب كي يكشر عن نابه دون خوف أو حياء.
لم يصدق شعب الجنوب حقيقة التموجات التي تحدث بل خدعهم الإعلام فظنوا أن صنعاء جاءت كي تحتل عدن، ورأينا الكثير يتحدث عن عدن التي تم تحريرها من أهلها، وحدثت موجة تهجير لكل شمالي من عدن ومن الجنوب كله حتى تمخض الجبل فولد بريطانيا في المهرة، وأمريكا في حضرموت ومدنها، وفي الجزر وفي قاعدة العند وباب المندب، وإسرائيل في سقطرى، ولم يجد الجنوب نفسه بعد كل هذه الظواهر مستقلا ولا يملك قرارا، بل وجد نفسه تحت بيادات المستعمر من جديد.
ثورة أكتوبر اليوم تعلن عن نفسها كسؤال يعيد ترتيب مفردات الحرية، والاستقلال، والسيادة، والوطنية، والعمالة، والخيانة، وحرية القرار، وتحديد المصير، وتضع على الطاولة سؤالها الوجودي الذي يبعث رموزه للواقع حتى يستعيد وعيه باللحظة الزمنية الفارقة في حياة أهل اليمن، ويتعلم من خلال التاريخ ما يجب أن يتعلمه .
لقد أصبحت صنعاء والقوى المناهضة للمشروع الاستعماري في صدارة المشهد الوطني وعليها أن تدرك مسؤوليتها التاريخية والحضارية، فقد شاءت لها الأقدار أن تضعها في الصدارة وهذا قدرها الذي وضعها الواقع فيه .
سوف تظل ثورة أكتوبر ثورة ملهمة لكل أحرار اليمن ضد أي غاز أو مستعمر أجنبي، وربما تكون ثورة أكتوبر في عامها هذا غيرها في كل الأعوام، فهي ثورة ملهمة لحركة التحرر ولن يهنأ غاز فكر في أذية اليمن أو حاول فرض هيمنته عليها، فاليمن لم تذل لغاز أبدا وبذلك يقول تاريخها .