في سياقات التاريخ المختلفة ظهرت جماعات وطوائف عدة أفرزتها عوامل الصراع، انحرفت بها معتقداتها إلى مزالق خطرة وخدشت وجه الدين وأصوله وعقائده الثابتة، ذلك لكون «الأنا» كما يقول «علم النفس» تقوم بسلطة الإشراف على الحركة الإرادية نتيجة للعلاقة التي تتكون من قبل، بين الإدراك الحسي وحركة الواقع، ويتركز دور «الأنا» في حفظ الذات عن طريق تخزين الخبرات المتعلقة بها في (الذاكرة( وبتجنب المنبهات المفرطة عن طريق (الهرب) وبالتصرف في المنبهات المعتدلة عن طريق (التكيف) وأخيراً بتعلم عمل التعديلات المناسبة في العالم الخارجي وفقاً لمصلحة «الأنا» الخاصة عن طريق النشاط، وهو الأمر الذي حدث في سياقات التاريخ المختلفة ونتج عنه نشوء جماعات وطوائف أحدثت تعديلاً في عالمها الخارجي يتوافق ورؤية «الأنا» ومصالحها، وما يزال يحدث – كما لاحظنا ذلك – في جدليات الصراع الوطني وسيظل يحدث طالما وكوننا النفسي تتجاذبه القوى الثلاث المتضادة «الهو» (سلطة الماضي) و«الأنا» (سلطة الواقع) و«الأنا العليا» (سلطة المثل والايديولوجيا.
وباستحضار المماثل التاريخي للحاضر كـ«كربلاء» مثلاً بما تحمله من بُعد إنساني مأساوي مدمّر نجد أنّ الذاكرة تمتلئ بمخزون معرفي عن «الواقعة» وبتفاصيل دقيقة وجزئيات مهمة تبعث الإحساس بالألم عن طريق زيادة التوتر الذي تحدثه المنبهات عن طريق «الهروب» و«التكيف» وصولاً إلى الإحساس باللذة وهو ما يمكن لنا وصفه بالنشاط الحركي المصاحب لـ«الحسينيات» باعتبارها تعديلاً مناسباً كان لابد من الهروب منه إلى واقع مغاير أو أفضل، ولذلك يمكن القول إن أنشطة «الحسينيات» عند شيعة العراق – وهم من خذل آل البيت – ذات بُعد نفسي عميق تتجاذبه المضادات /زيادة/ خفض، ألم/ لذة..، تمهيداً للانتقال أو تعديلاً للشعور الطاغي بالذنب والمأساة، وقد تطور ذلك النشاط بفعل عامل الزمن ليصبح طقساً تعبدياً بلغ ذروته بالمزج بين المعنوي والحسي في الوصول إلى الألم.
فـ«كربلاء» أحدثت تعديلاً لها يتجاوز مأساتها ويتكيف مع مفرداتها، ومثلها كل الأحداث التي مرّت في التاريخ، والتفاوت كائن في قدرة كل حدث على التأثير في البنى العامة للمجتمعات الإنسانية من عدمها .
وما حدث في دول الربيع العربي هو تماثل وتشاكل مع «كربلاء» من حيث المأساة والدم المراق، ذلك لأنّ «الهو» (الماضي) ظاهر على «الأنا» (الحاضر) وغلبة البعد الثقافي الماضوي في المكوّن العام «للأنا» يجعلنا نعيش ذات اللحظة التاريخية التي أنتجته ,ونشعر بذات الانفعال تجاهه , كوننا لم نصل إلى حالة من حالات التوازن كي نحدث الانتقال الثقافي , وتبعاً له يحدث الانتقال النفسي، لذلك تشابهت مراحل الهروب والتكيف والتعديل، فالذي كان يعيبه أرباب السنة على الشيعة وقعوا في دائرته زمن الاعتصامات والثورات التي عشنا تفاصيلها منذ عام 2011م، فقد سمعنا حينها من يقول إن النشاط الحركي المصاحب للشعار السياسي عبادة، وكان من مثل ذلك عند أرباب السنة من العقائد الضالة ولكنهم أحدثوا تعديلاً حين تماثلت الأحداث والدوافع، إذ أنّ الرابط الموضوعي كان متشاكلاً من حيث تفجر الحدث ودمويته ومأساويته ومن حيث الخروج واختلال النظام العام والقانون الطبيعي، وهو الأمر الذي فرض على «الأنا» الحفظ في الحالين من خلال إحداث التعديلات هروباً من مخزون الذاكرة وتكيفاً مع لحظة زمنية جديدة.
ومن هنا يمكن القول إن الذي حدث في 2011م – بملامحه الدموية المتشاكلة مع غيره في السياق التاريخي – أحدث تشعيباً وتشظياً، فالسلفية التي كانت تعزف عن السلطة والتمكين أصبحت تشرعن ذلك بالقول بامتلاك الأرض لتحقيق حاكمية الله فيها، وهناك من رأى أنّ التمكين شرط لإقامة أركان الدين مستنداً إلى الدلالة القطعية لنص الآية (41) من سورة الحج، وثمة تخريج ظهر زمن تفجر الأحداث -(2011م)- يبتعد عن التأصيل الفقهي وفق قواعده واشتراطاته المتعارف عليها عند الفقهاء ليقترب من تبرير الفعل السياسي كالقول بجواز الخروج بالاستناد إلى حادثة تاريخية لم يجزم أحد بصحتها، فالتاريخ ظل ظنياً ولم يرقَ إلى رتبة اليقين عند جل الفقهاء، والقول بالخروج ثابت عند الزيدية، والتعديل عند أهل السنة كان لضرورات الحفظ للذات ليس أكثر.
بيد أنّ ما يُستغرب له أنّ سنة 2011م رغم قدرتها على إثارة المنبهات وقدرتها على التفجير والتوظيف للحدث إلا أنّها لم تنتج إلا تفاعلاً أصولياً، وقد ظل العقل اليساري والليبرالي والحداثي وما بعد الحداثي غائباً في مظاهر الحدث وإفرازاته وفي تفاعلاته، وذلك دال على غُبْن يمكن القول إنه مورس بشكل أو بآخر على العقول، ودال أيضاً على هيمنة الأصولي والبراغماتي.. وتلك الهيمنة نتيجة منطقية لسياسة التوازنات التي انتهجتها الأنظمة السابقة وتركيزها على سياسة إضعاف القوى الأكثر ميلاً إلى العقل، وتبعاً لتلك المقدمات نشهد الآن تمدداً رأسياً وأفقياً للأصوليات وانحساراً للقوى العقلانية، وهو الأمر الذي يجعلنا في مواجهة جدلية قادمة.
فالقضية لم تعد في الشكل بل تكاد أن تكون قد تجاوزته إذ أن أكثر ما يهدد المجتمعات في الوقت الذي نعيش هو حالات الانقسام وحالات التشظي في ظل ما تشهده المجتمعات من تحيزات فكرية , ومن تخندق وادعاءات في امتلاك الحقيقة، ومن مشاعر الانتقاص وفقدان القيمة للآخر، ومن تسفيه المعتقدات والآراء …, والقارئ الممعن بجد أن ثمة جماعات تتربص بمن يخالفها الدوائر , وثمة جماعات ترى أن الإسلام في التفجيرات والعبوات الناسفة، وفي استهداف مصالح الناس العامة فالذي حدث في مأرب والجوف وحضرموت هو ذاته الذي حدث في سيناء أو في العريش في مصر فالتناغم والتجانس حالة متصمدة لا تكاد تنفصل.
كما أن حالة من حالات التفكك تكاد أن تكون قد وصلت إلى الجماعات المتجانسة، فالذين يرون جواز فتح عيادات التداوي بالقرآن أو عيادات التداوي بالسنة هناك من يرى تحريمها ويرى تحريم حالات التكفف وفرش الشيلان أو وضع المحصلات لدعم حلقات تحفيظ القرآن في حين يرى فريق من ذات الجماعة جواز ذلك، ومثل ذلك الجدل نتيجة طبيعية لحالات الفرز والتمايز الثقافي والاجتماعي التي بالضرورة قد تفضي إلى التعدد .
اليوم نقول مضى عقد ونيف من الزمان منذ بدأت حركة تفكيك النظام العام والطبيعي في المجتمعات العربية وما تزال اليمن وليبيا تراوحان مكانهما دون سائر البلدان وربما كان الوضع في اليمن أكثر بلاء من سائر البلدان إذ أن طبيعة البناء الثقافي والعامل التاريخي لا يجعلان اليمن يصل إلى نتائج الدولة المستقرة والعادلة والقادرة على تحقيق الرفاه للناس ومثل ذلك متوقع فاليمن أصابته لعنة التباعد منذ القدم ويبدو لي أن حركة الاشتغال على البنى الثقافية والاجتماعية من قبل طرف عملاء العدوان سيجعل اليمن تدخل في دائرة التيه إن لم يتدارك العقلاء الأمر بالاستفادة من عبر وعظات التاريخ لكن الوقائع تقول :لا أحد يملك القدرة على القياس والاستدلال فالغالب هو الانفعال , وحين تصبح الذات غالبة على موضوعها لا يمكننا توقع نتائج حميدة ذات قيمة .