في الاسبوع الماضي اتهمت منظمة هيومن رايتس ووتش المعنية بحقوق الإنسان السعودية بانتهاك القانون الدولي الإنساني في اليمن وتكثيف حملات اعتقال ومحاكمة نشطاء يطالبون بالإصلاح أو يعبرون عن معارضة سلمية. وهذه ليست المرة الاولى التي توجه المنظمات الحقوقية الدولية انتقادات حادة لهذا البلد الذي يعيش مخاضات عديدة منذ عقود. وبرغم ان هذه الانتقادات ليست مصحوبة بمشروع عملي لوقف الانتهاكات اليومية سواء في اليمن ام الرياض ام المنطقة الشرقية، فانها مؤشر لعمق المشكلة الإنسانية والحقوقية في واحدة من كبريات الدول العربية والاسلامية. كما انها امر محرج للقوى الغربية الداعمة للسعودية. في السابق كانت هذه الدول تكتفي بتوفير دعم سياسي وامني للرياض، ولكن في عهد محمد بن سلمان اصبح هذا الدعم موفرا للرياض حتى في الممارسات التي ينتهك فيها القانون الدولي الانساني. ولا تجد واشنطن ولندن غضاضة من هذه الثنائية التي تنطوي على الكثير من التناقض. فما مصاديق هذه الثنائية؟ لتوضيح ذلك يجدر تقديم بعض مصاديق ذلك:
الاول: ان السعودية تقود التحالف العسكري الذي شن الحرب على اليمن قبل قرابة الاعوام الثلاثة، تلك الحرب التي احدثت دمارا ماديا وبشريا هائلا. وبرغم المطالبة بتشكيل لجنة دولية مستقلة لتقصي الحقائق فقد استطاع النفوذ السعودي المدعوم من الدول الداعمة منع ذلك، وفي اكثر من مرة تم تشكيل لجان لم تمارس دورا محايدا في التحقيق. وفي ردها على بيان منظمة هيومن رايتس ووتش قال متحدث باسم التحالف: «إن إلقاء اللوم على السعودية في الأزمة الإنسانية في اليمن غير منصف» مضيفا أنه «أسس آلية مراقبة خلصت إلى أن التحالف لم يستهدف المدنيين». جاء هذا الرد برغم تأكيد احصاءات المنظمات الاغاثية الدولية ان عدد الضحايا المدنيين حتى الآن بلغ اكثر من عشرة آلاف انسان، بينهم اطفال ونساء. وقالت سارة ليا ويتسن المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: «صورة محمد بن سلمان كرجل إصلاحي ـ التي صُرفت عليها أموال كثيرة ـ تسقط في وجه الكارثة الإنسانية في اليمن وأعداد النشطاء والمعارضين السياسيين القابعين في السجون السعودية بتهم زائفة». وقد بثت القناة التلفزيونية الثانية لهيئة الاذاعة البريطانية (بي. بي. سي) حلقتين من ثلاث حول المملكة العربية السعودية، تناولت الاولى منها موضوع الإرهاب بالتركيز على الدور السعودي في ذلك، مؤكدة ان الرياض انفقت 90 مليار دولار في العقود الاربعة الماضية لدعم مشروعها «الديني» في العالم الاسلامي. اما الحلقة الثانية فتطرقت للفساد المالي الذي تورط فيه امراء منذ اكثر من ثلاثين عاما. وركزت الحلقة على الفساد المرتبط بصفقة اليمامة التي وقعتها السعودية مع بريطانيا في العام 1985 وبلغت قيمتها النهائية 43 مليار جنيه استرليني. واشارت إلى ان الرشاوى التي تضمنتها الصفقة تجاوزت ستة مليارات جنيه وان شركة بي أيه إي سيستمز شاركت في ذلك.
الثاني: ان الولايات المتحدة الأمريكية ترفض حتى الآن التوقف عن المشاركة في الحرب على اليمن، بدعم السعودية عسكريا ولوجستيا وامنيا. وترفض واشنطن الدعوة لوقف اطلاق النار، برغم تكرارها القول ان الوضع اليمني لن يحل عسكريا وان الحل السياسي هو المخرج الوحيد من النزاع. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي اصدر مجلس النواب الأمريكي قرارا يدعو للانسحاب من «الاعمال العدائية غير المرخصة» في الحرب على اليمن التي تقودها السعودية. وقل السيد رو خانا، عضو الكونغرس الأمريكي عن الحزب الديمقراطي ان بلاده ترتكب «جرائم حرب» في اليمن، وان أمريكا ارتكبت خطأ بدعم التحالف الذي تقوده السعودية في الحرب على اليمن: «اننا اليوم ندعم المملكة العربية السعودية التي ترتكب جرائم حرب». ويعتبر الدعم العسكري الأمريكي للسعودية من اهم عوامل استمرار الحرب، خصوصا بعد ان دفعت السعودية اكثر من 400 مليار دولار العام الماضي لضمان موقف ادارة ترامب إلى جانبها.
الثالث: ان بريطانيا، هي الاخرى، شريكة في الحرب، مدفوعة باطماع اقتصادية وسياسية. وكانت حكومتها تتوقع ان يكون لها نصيب وافر من الكعكة السعودية بسبب مشاركتها في الحرب. وقد اعترفت الحكومة البريطانية في تموز/يوليو 2015 على لسان وزير الدولة لشؤون الدفاع، اللورد هاو ان حكومته تقدم للسعودية صواريخ وقنابل موجهة، ومعلومات استخباراتية وعسكرية ودعما لوجستيا. ووفقا لما هو متوفر من احصاءات فان مبيعات الاسلحة البريطانية للسعودية منذ اندلاع الحرب تجاوزت 6 مليارات دولار. وترد بريطانيا على اتهامها بالضلوع في حرب جائرة ارتكبت فيها جرائم حرب على نطاق واسع انها في الوقت نفسه قدمت معونات اغاثية تقدر بحوالي مليوني دولار. فماذا يعني ذلك؟
الرابع: ان هذه الثنائية اصبحت تقلق الدول الاوروبية بشكل خاص، لأنها كشفت عدم جدية الغرب في الالتزام بمقتضيات مشروعه الديمقراطي والتزاماته ازاء منظومة حقوق الانسان. وما اكثر القرارات (غير الملزمة) التي صدرت عن البرلمان الاوروبي داعية لوقف الحرب على اليمن ووقف السلاح عن الدول المشاركة خصوصا السعودية. وفي الاسبوع الماضي تعهدت النرويج بذلك. والمطلوب من البرلمان الاوروبي والمفوضية الاوروبية امتلاك الشجاعة واطلاق دعوة صريحة لوقف اطلاق النار في تلك الحرب المدمرة.
الخامس: ان هذه الثنائية التي تحمل تناقضا واضحا بدأت تضغط على بعض القوى السياسية خصوصا في اوروبا. ففي الاول من ديسمبر الماضي جدد البرلمان الاوروبي دعوته لوقف صادرات الاسلحة إلى السعودية، ودعا إلى «حل سياسي» للنزاع. وقد رحبت حملة مكافحة انتشار السلاح البريطابية بهذا الموقف قائلة: « لقد بعث البرلمان الاوروبي رسالة واضحة لا يشوبها الغموض للحكومات كالحكومة البريطانية، التي ساهمت بشكل كامل في تدمير اليمن». وفي بداية الشهر الحالي قالت وزارة الخارجية النرويجية إن أوسلو قررت تعليق صادرات الأسلحة والذخيرة لدولة الإمارات بسبب مخاوف من احتمال استخدامها في الصراع اليمني. وقالت الوزارة في بيان إن «تطور النزاع في اليمن خلال خريف 2017 كان خطيرا وهناك قلق كبير على الوضع الإنساني». وفي الاسبوع الماضي وافق مفاوضو الحزب المسيحي الديمقراطي بزعامة المستشارة الألمانية «أنغيلا ميركل» والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري بالإجماع على مذكرة تضمنت اتفاقا بشأن وقف صادرات السلاح لأطراف النزاع في اليمن بينهم السعودية وحلفائها. وجاء في المذكرة «ستعمل الحكومة الألمانية (المقبلة) فورا على حظر تصدير السلاح إلى دول، ما دامت تشارك في حرب اليمن».
هذه المؤشرات تؤكد تعمق الوعي بضرورة وقف السلاح والتخلي عن سياسة النفاق التي تنتهجها الدول التي تشارك عمليا في العدوان على اليمن وترسل مساعدات انسانية للضحايا. هذه الثنائية في التعامل مع قضايا تمس حياة البشر يجب ان تنتهي فورا لأنها تحط بالكرامة الإنسانية وتقتل الضمير وتحول العالم إلى خلية من النفاق والانتهازية. وهذا يؤدي للكراهية ومصادرة حق الانسان في الامن والاستقرار.
*نقلاً عن المراسل نت