طويت ثماني سنوات على رحيل المناضل الجسور الصحفي عبد الكريم الخيواني، غير أن ألمَ المصاب لا يزال يهد قلوبنا، وفاجعة اغتياله تظل من أكبر الفواجع، على الرغم ما حَـلّ بنا بعده من عدوان متغطرس بقيادة أمريكا والمملكة السعوديّة، ولهذا فَـإنَّ مارس من كُـلّ عام يحضر؛ فتحضر معه كُـلّ الآلام والأحزان، ويكفي أنه في 18 مارس عام 2015 فقدنا الخيواني، شهيد الكلمة، والحرية، والعدالة.
كتبوا عنه مرثيات، ومقالات، وقصائد شعرية؛ فقالوا إنه ضمير الكلمة، وإنه في أعلى عليين، وإن خلودَه يقهرُ الرحيل، وإنه إمامُ الإنسانية، ومع ذلك فَـإنَّ ما قيل عنه كان قليلاً، وقد ترجّل –رحمه الله- حراً شجاعاً أبياً، بعد رحلة طويلة من إزعاج الفاسدين والظالمين والمجرمين.
كان الخائن عبد ربه منصور هادي يرتجف، في آخر جلسات مؤتمر الحوار الوطني، ولم يتمكّن من نطق لقب “الخيواني” وقد انعقد لسانه، حين تحدث الشهيد –رحمه الله- بلسان كُـلّ حر، مستنكراً وباكياً زميله الشهيد أحمد شرف الدين، الذي اغتيل في جريمة وحشية هزت اليمن والمنطقة برمتها، ويومها كان الشعب كُـلّ الشعب يشاهد هذا الإنسان الثائر، وهو يقول كلمة الحق أمام سلطان جائر، غير مكترث للعواقب، أَو الأضرار التي يمكن أن تحدث به.
أكاد أجزم أن الشهيدَ الخيواني كان يدركُ أن رصاصةً غادرةً ستخترقُ جسده ذات يوم؛ ولهذا لم يكن يكترث للطغاة والمستبدين، وكان يقول كلمة الحق ولا يبالي بالمآلات التي تنتظره، وهذا لا يدل إلا على شجاعة هذا الرجل، وصدق إيمَـانه، وانتصاره للحق، وبحق فقد كان قلمه يكتب للحرية، والنضال، والثورة، وكلّ معاني الخير والصلاح في هذا البلد.
وللشهيد –رحمه الله- حكايات مع الألم والمعاناة، وهو يقارع نظام الخائن عفاش، والفارّ من وجه العدالة المجرم علي محسن الأحمر؛ فكان لوحده أُمَّـة وهو يواجه طغيانهم، وكانوا وحوشاً ومجرمين، اعتقلوه أكثر من مرة، وعذبوه، ومارسوا بحقه كُـلّ أنواع الترهيب، كُـلّ هذا؛ مِن أجل أن يسكت، وألا يتفوه بكلمة واحدة، وهو الذي كان يشعل صحيفة “الشورى” حين كان رئيساً لهيئة تحريرها، ويسخر قلمه وإمْكَانياته لمناصرة المظلومين في صعدة، الذين تجبر النظام الخائن عليهم، ومارس بحقهم كُـلّ أنواع القتل والتنكيل؛ فكان الخيواني ورفاق دربه في الصحيفة هم الوحيدين الذين تصدوا لمشارعِ الظلم والطغيان، فكان مصيره السجن والملاحقة والتعذيب، كما كان –رحمه الله- في مقدمة الصحفيين الذين تصدوا لمشاريع التوريث، ومواجهة طغيان نظام الخائن عفاش؛ ولهذا فقد كان الموت يحاصره من كُـلّ جانب، حتى اقتنص الأعداء الفرصة المناسبة للتخلص منه، وإسكات صوته إلى الآبد.
كان مشهد سحبه من منزله في منتصف الليل، وتعرضه للضرب أمام أولاده، من أبرز المشاهد الأليمة التي واجهت الشهيد –طيب الله ثراه- وقد ساق له نظام عفاش تهماً كثيرة، فتارة قيل بأنه “جاسوس”، وتارة أُخرى بأنه “إرهابي”، وفي المعتقل منع من الحصول على دوائه، وفي مقر صحيفته حطمت حواسيبه، ورميت في القمامة، وكادت أن تقطع أصابعه كما تقول “جين نوفاك” التي كانت من ضمن الكتاب الأجانب المتأثرين بالشهيد الخيواني.
وصفه الراحل الدكتور عبد العزيز المقالح، بأنه “الكاتب الأشجع”، والذي قال عنه: “منذ عرفته وإلى لحظة استشهاده لم يحمل عبد الكريم سلاحاً سوى قلمه، كان يمشي وحيداً مطمئناً إلا أنه لا يحمل في نفسه إلا المحبة لكل أبناء وطنه بمن فيهم أُولئك الذين اختلف ويختلف معهم، وانطلاقاً من أن خلافه لم يكن شخصيًّا ولا مصطنعاً، بل كان يقوم على حقائق يراها هو قابلة للنقاش وتستحق أن يدور حولها الحوار الكلامي، حوار القلم، حوار الكلمة، لا حوار البندقية والرشاش”.
الفارس يترجل:
نبأ اغتياله كان “كالصاعقة”، ومصابُه كان أليماً على كُـلّ قلب يعرفه أَو لا يعرفه، فقد أراد العدوان توجيه أول رصاصة للشعب اليمني في صدر الكاتب الحر والمناضل الجسور عبد الكريم الخيواني، وقد تبين أن الأعداء المجرمين وقبل بدء الغارات المتوحشة على بلادنا أرادوا أن يطفئوا وهج الإعلام اليمني الحر المتدفق؛ كي يمارسوا طغيانهم دون “ضجيج” أَو “صخب” إعلامي عليهم، ولهذا فقد كان الشهيد الخيواني على رأس القائمة، وفي مقدمة الضحايا، لكن كريم لم يغب عن مواجهة العدوان، فهو قضية، ومشروع وطني، وهو عالم وأديب، ومناضل، وصحفي، وثورة نقاء، والعالم بدون عبد الكريم الخيواني هو عالم موحش جِـدًّا، بحسب صديقه المقرب الإعلامي جمال الأشول.
ويقول الأشول متحدثاً عن ألم المصاب والفراق: “لم أصدق حتى يوم تشييعه عندما وضع جسده الطاهر في بيته الجديد، لقد دفنت حياتي معه في الحفرة نفسها، فلم يعد هناك شيء للحياة، ولم يعد هناك ما يستحق الحياة؛ لأَنَّ آخر رجال التاريخ رحل، رحل وترك لنا حياة عزاء طويلة، ولكنها بقيت ذكريات وأيام لم تدفن بعد”.
ويصفُه القاضي عبدُ الوهَّـاب المحبشي، في قصيدة رثاء “بفخامة رئيس التحرير”، بعد أن كتب أبياتاً بكائية على فقدانه، وكان من ضمنها:-
يا حضرةَ القديس
كيف ترى نالتْك غدراً
طلقةُ الخسيس
وهل مضى من بعدِها
لكي يصلّي الظهر
في الكنيس
ألم تكن رئيسَنا
ألم تكن في أُمَّـةٍ مهزومة
رئيسَ تحرير لها
تحرّرت
يا سيدي لكنها
وااا حسرتي
لم تحرس الرئيس.
ومن أبرزِ أبياتِ رثاء الشهيد الخيواني، كتب شاعر الثورة معاذ الجنيد، يومها أروعَ الحروف، في مطلع قصيدة نثرية بعنوان: “ها أنت تصعدُ للسماء”، وقد لحّنها المنشدُ المتألقُ عبدُ العظيم عز الدين، بصوتٍ ملائكي شجي.
ومن بعض ما كتب الشاعر الجنيد:
الفجر بعد سناك يطلع
وهو مسودٌّ كظيم
حتى القصائدُ في رحيلك مثلَنا
مفجوعةٌ تبدو
ومطلعُها سقيم
جفت عليك عيونُنا حزنًا
وأصبح كُـلُّ وجه كالصريم
الآن إن متنا وإن عشنا
فلا أسف ولا فرق هناك
فأيُّ معنى للحياة
بدون وجهِك يا كريم.
ولهذا فَـإنَّ أي إنسان عايش الصحفي عبد الكريم الخيواني، لا يذكرُه إلَّا ويترحم عليه ويدعو له بالمغفرة والرضوان.
* نقلا عن : المسيرة