درج الناس منذ أمد طويل على الاحتفال بيوم الولاية في غدير خم، حتى أصبحت التسمية عيد الغدير، وتحول الحدث من بعده الثقافي إلى البعد الاجتماعي الذي أفرغ الغدير من محتواه الثقافي إلى أن أصبح تظاهرات اجتماعية جرت العادة عليها كاحتفال يخرج الناس فيه فيسردون الحكاية، ويهدرون كمية كبيرة من الرصاص في الجبال ويذبحون ثوراً ثم يميلون إلى المقيل والدعة والراحة.
لا أظن أن الحكمة من فكرة الغدير وفكرة الولاية هي إضافة يوم للسعادة، لو كانت كذلك لما جاءت بالتزامن مع عيد الأضحى المبارك، ولكن الحكمة هي أن حالة الانتقال التي تحدثها مناسبة عيد الأضحى في النفوس وفي الواقع الاجتماعي تجد لها بعداً نظرياً في التحول أخلاقيا وثقافيًّا وسياسيًّا ودينياً، فكانت فكرة الولاية أَو كان عيد الغدير -وفق التسمية الشعبيّة في الكثير من المناطق- حتى يكون الإمام مستنداً على مرجعية يمكن البناء من سلسبيل عطائها وفكرها.
ففي كُـلّ الديانات السماوية أَو الوضعية هناك أَيَّـام فاصلة في حياة الأمم تكون لهم عيداً أَو مناسبة فرائحية، وهي في حقيقتها حالة من حالات الانتقال والتبدل، فالثبات طوال عام من الزمان يبعث على الرتابة والملل، والرتابة والملل بدورهما يكونان سبباً في الفساد في الأرض، ومثل ذلك تحدث عنه القرآن في جل آياته، بيد أن المشكلة تكمن في سوء الفهم والتأويل وربما في خطأ القراءة للسياقات العامة، فالعقلية التي تتقبل الكليات المنطقية دون تجزئتها، أَو تحليل عناصرها لا يمكنها أن تدرك حكمة الله، ولا مقاصد الإسلام والنص المقدس، فالذين يتعاطون مع الدين الإسلامي وفق فهم الفقهاء الذين فهموه وفق سياقات ومعطيات زمنهم الذي كانوا فيه لا يمكن لهم أن يحدثوا متغيراً حضارياً في حياة المسلمين، ولا يمكن لهم أن يسهموا حتى بقطرة في نهر الحضارة المتدفق؛ فالإسلام ليس قالباً جاهزاً ولكنه روح ديناميكية، ورؤية، وتصور، ومفهوم متحَرّك قادر على التفاعل مع الحضارات والثقافات، وقادر على الابتكار والإبداع، ومقاصده واضحة وجلية لا يمكنها أن تتصادم مع الحياة والعمران والنمو والتقدم والازدهار ولا مع حقوق الإنسان.
ولو قرأنا فكر الإمام علي -عليه السلام- فيما تركه من حكم وأقوال ونظريات ثقافية واجتماعية واقتصادية وحقوقية وفلسفية لوجدنا أنفسنا قد تجاوزنا أصحاب الثورة الفرنسية ومفكريها وغيرهم بمراحل طوال وطوال جِـدًّا، لكننا نتعامل مع القضايا بنظرة كلية غير قابلة للتفكيك والتجزئة ولا معرفة الغايات والمقاصد ولذلك لم يستقم حالنا كمسلمين منذ انهيار الدولة الإسلامية وسقوط بغداد الأول إلى سقوطها الأخير عام 2003م.
فاليوم كما هو في الأمس تتكالب الأمم على العرب وعلى المسلمين كما يتكالب الأكلة على قصعتهم، تضيع الأرض، وتضيع المقدسات، وتنتهك الحرمات، والكثير من العرب ومن المسلمين في شغل العدوات والشحناء فكهون، ينسجون خيوط العداوات والبغضاء لبعضهم بعضاً، وعدوهم ينسل من بين أناملهم فيعيث فساداً في أرضهم وفي مقدساتهم، وينال من شرفهم، هم على أرائك العدوات متكئون دون أن يحركوا ساكناً، أَو نسمع لهم من صرخات الألم ركزاً.
ما يتميز به اليوم عن الأمس هو التطبيع الذي بدأ الكثير من زعماء العرب والمسلمين ينساقون إليه طوعا أَو كرها، بالأمس كان العدوّ واضحًا ومحدّداً وسهام الجهاد تتجه إليه، وإن داهن من داهن من الفرق والطوائف، إلا أن المسلمين كانوا يرون العدوّ عدواً، والمحتلّ محتلّاً، والغازي غازيًا، لكن في يومنا بدأوا بالهُــوِيَّات الثقافية، والحضارية، والتاريخية، والدينية، فاشتغلوا عليها حتى تاه القوم وفقدوا المعنى الديني والثقافي والحضاري والتاريخي، ثم مالوا إلى المفاهيم -وعن طريق أناس من بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ويؤمنون بديننا ظاهراً ويكتمون كفرهم باطناً– فجعلوها بدداً وبدون محدّدات، وبدون ظلال، وأفرغوا كُـلّ مفهوم من محتواه حتى كاد القوم يرون في الصهيونية، وفي الغزاة، وفي المحتلّين بدائل محتملة للوطنين وللأحرار والشرقاء الذين ما زالوا يحفظون البوصلة ويعرفون الاتّجاهات في زحمة الضياع والتيه التاريخي الذي لازم العرب منذ سقوط بغداد الأول إلى سقوطها الحديث بيد الغزاة والمحتلّين.
لذلك نقول يجب أن يكون احتفالُنا بالغدير احتفالًا نظريًّا وعمليًّا؛ بحيث نستلهم الفكرة والنظرية من الإمَـام -عليه السلام- ونشتغل عليها لتكون لنا طريقاً ونبراساً إلى المستقبل الذي تركناه فأصبح ظلاماً دامسًا، أما التظاهرات فلا أراها أمراً صائباً إن لم تتحول إلى حركة بعث لفكر الإمام وحكمه ونظرياته وفلسفته ومنهجه في الحياة.