تحت عنوان: "
حرب ثقافية وسط حرب غزة"، تناولت صحيفة "ذي إيكونوميست" البريطانية الارتباط الوثيق بين الحروب الحقيقية والحروب الثقافية الذي أنتجته التغيرات الأيديولوحية والديموغرافية والتكنولوجية في عالمنا الحالي.
فيما يلي نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:
النزاع انتقل إلى شوارع الغرب وشاشاته
الصور لافتة للنظر، والإيقاع والقافية يثيران الحماس. الأصوات تصدح بالشعارات الشعبية الفلسطينية: "من النهر إلى البحر" و"فلسطين ستتحرر" في الأيام الأخيرة، ترددت أصداء هذه الشعارات في الساحات من تورونتو إلى برلين. ارتدى الطلاب في كاليفورنيا الكوفية ذات المربعات، وهتفوا بالشعارات في ممرات المدرسة. وكتب بعض الناشطين شعارات على جدار إحدى الجامعات في واشنطن العاصمة.
ماذا يقصدون؟ ظاهرياً، يعد هذا الشعار دعوة مثالية للتحرّر، إلا أن التعبير الذي يعود تاريخه إلى عقود من الزمن يحتوي أيضاً على تهديد: النهر هو نهر الأردن، والبحر هو البحر الأبيض المتوسط، والحرية، في هذه الحالة، تعني تدمير "دولة إسرائيل". وهذا بالتأكيد هو المعنى الذي تستخدم به حماس هذه العبارة. ربما لم يدرك الأولاد الذين كانوا يهتفون بهذه الشعارات قرب عمود نيلسون في لندن يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر، خلال مسيرة كبيرة مؤيدة للفلسطينيين ما تحمله من تهديد. لكن الكثير من المتظاهرين الذين كانوا يصرخون بهذه الكلمات، أو يحملونها على اللافتات، بدوا على علم بذلك، ودافعوا بصوت عالٍ عنها عندما طُلب منهم تفسيرها.
ويشير انتشار هذا الشعار إلى تحول مهم في المواقف الغربية تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مدفوع بثلاثة محركات: التكنولوجيا، والديموغرافيا، والأيديولوجيا.
لقد تعاطف اليسار الغربي ذات يوم مع الصهيونية. لكن ذلك تغير بشكل ملحوظ بعد حرب الأيام الستة عام 1967 والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة. وخاصة منذ نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ظلت القضية الفلسطينية بمثابة تعويذة بالنسبة للغربيين ذوي الميول اليسارية. كيف حصل ذلك؟ هذا موضوع للنقاش. تقول بعض التحليلات إن "إسرائيل" هي بمثابة تجسيد للقوة الأميركية أو للصراعات الاستعمارية الماضية. وفي هذا السياق، تساءلت الجماعات اليهودية وغيرها من الجماعات عن الأسباب التي تجعل الخسائر في الأرواح في سوريا أو أفغانستان على سبيل المثال، حيث يكون الجناة والضحايا من المسلمين أقل إثارة للتعاطف في العالم.
وبعد فترة من تراجع أهمية هذه القضية في الدبلوماسية الغربية وعناوين الأخبار، عادت محنة غزة لتشكل مصدر إلهام للاحتجاجات والنزاعات بشكل لم يسبق له مثيل. وقد شجبت وفرة من الرسائل المفتوحة التي كتبها فنانون وغيرهم من الشخصيات البارزة القصف الإسرائيلي ورضوخ القادة الغربيين له. وقد نُظمت مسيرات مؤيدة للفلسطينيين في الكثير من المدن، بما في ذلك بعض المدن التي كانت تحظر هذا النوع من التحركات.
وبدأ سيل الاتهامات المتبادلة يتدفق في الاتجاهين. في بريطانيا، أدى إحجام "بي بي سي" عن الإشارة إلى حماس على أنها "إرهابية" إلى احتجاجات وتراجع جزئي. كما أُفيد بأن ديف تشابيل، الممثل الكوميدي الأميركي، تشاجر مع عدد من المقامرين في حفل موسيقي في بوسطن بعد أن أعرب عن أسفه للأزمة في غزة. كما تعرض بعض الطلاب الأميركيين للمطاردة بسبب آرائهم المناهضة بشدة لـ "إسرائيل". تم إلغاء محاضرات كان من المفترض أن يقدمها مؤلفون فلسطينيون. وفي هذا السياق، قالت مؤسسة "ليغل" الفلسطينية التي تدعم النشطاء المؤيدين للفلسطينيين في أميركا، إنهم "يواجهون موجة من ردود الفعل الكارثية العنيفة التي تستهدف سبل عيشهم ومهنهم".
مشاهدة مؤلمة
"الصمت عنف" هو شعار احتجاجي شعبي آخر وهو موقف اتخذه البعض من جميع الأطراف. وقد تعرضت مجموعة من المؤسسات، من الجامعات إلى النقابات للتوبيخ بسبب صياغة بياناتها العامة، أو بسبب فشلها في إصدار بياناتها. لقد تم تشبيه الدعوات من أجل السلام بالاسترضاء. كذلك لجأ أنصار كل من الطرفين لاستخدام أوكرانيا لإظهار النفاق المفترض للمعسكر المعارض. ورأى أنصار الفلسطينيين أن غزة ضحية (مثل أوكرانيا) لغزو جار متسلط بينما شبه المؤيدون لـ "إسرائيل" توغل حماس بـ "جرائم" الحرب الروسية.
إن المشاعر المستقطبة والشعارات هي في جزء منها نتيجة تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. أما بالنسبة للتركيبة السكانية: فالهجرة هي أحد العوامل التي تؤجج الحرب الثقافية في الغرب. إن السكان المسلمين في الدول الغربية ينمون ويتغيرون في تكوينهم. ويشير يونس أولسوي من مركز الدراسات التركية وأبحاث التكامل في إيسن، إلى أنه في الماضي، كان معظم السكان المسلمين في ألمانيا من أصل تركي. أما اليوم هناك نحو 2.1 مليون مسلم في البلاد من سوريا والعراق وأماكن أخرى معادية لـ "إسرائيل". لقد جلبوا معهم وجهات نظرهم حول الصراع، والتي تشكلت، كما يقول السيد أولوسوي، من خلال الشعور بالتضامن مع الأمة، أو المجتمع الإسلامي العالمي.
وفي الوقت نفسه، يتضاءل الوعي بالنازية والمحرقة التي صبغت على مدى عقود المواقف الألمانية تجاه "إسرائيل" ومعاداة السامية. وتقول البروفيسورة جوليا بيرنشتاين من جامعة فرانكفورت للعلوم التطبيقية إن بعض المسلمين يعتقدون أن هذا الماضي المروع "ليس تاريخنا"، وأنهم الآن الضحايا الحقيقيون للتحيز في ألمانيا.
ويشير دومينيك مويسي، المحلل الفرنسي البارز، إلى أن فرنسا هي موطن لأكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا الغربية وأكبر عدد من اليهود. والنتيجة، كما يقول مويسي، هي "صراع الذكريات" الذي يتجلى في السياسة وفي الشوارع.
ويقول تيم مالوي، محلل استطلاعات الرأي في جامعة كوينيبياك في ولاية كونيتيكت، إن الأميركيين الأصغر سناً أقل ميلاً إلى دعم "إسرائيل" من كبار السن. كما أنهم يفكرون بشكل أكثر إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني. ووفقاً للاستطلاعات التي أجراها مركز "بيو"، فإن هذه الفجوة في التعاطف بين الأجيال الأميركية آخذة في الاتساع. فالكثير من الناخبين الشباب ليس لديهم ذكريات مباشرة عن هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، وهي الكارثة التي شكلت وجهات نظر الأميركيين الأكبر سناً تجاه [إرهاب الإسلاميين].
ثم يشير المقال إلى العامل الثالث وهو عامل الأيديولوجيا، فيقول:
إن رؤية العالم من الناحية المانوية يمكن أن تكون مريحة. فهو يحول القضايا المربكة إلى صراعات بسيطة بين الخير والشر، ويضفي هالة من الفضيلة على أولئك الذين يختارون الجانب الصحيح. وكما يقول ياشا مونك، مؤلف كتاب "فخ الهوية"، فإن الأيديولوجية الناشئة تقدم هذا الشكل من الراحة، حيث تصنف العالم إلى فئات متعارضة: المستعمِر والمستعمَر، والمضطهَدين والمضطهِدين في كثير من الأحيان على أسس عنصرية. فهو في جوهره ينقل مصطلحات المناقشات الأميركية حول العرق إلى أماكن ومشاكل أخرى.
في عصر الاستقطاب، يستنتج الكثير من الناس آراءهم من خلال ولائهم السياسي وليس العكس. ويعتقد مونك أن هذا جزء من جاذبية الأيديولوجيا الجديدة: فهي توفر مفردات متعددة الأغراض يمكن تطبيقها على أي صراع. في هذا المخطط، لا يمكن للضعفاء أن يرتكبوا أي خطأ، على الأقل تجاه الأقوياء، ولا يمكن لأحد أن يرتكب كلا الأمرين. وترتبط حركات التحرير بجميع أنواعها ببعضها البعض، كما كان الحال مع حركات التمرد الشيوعية خلال الحرب الباردة. ومع إطلاق مشاعل بألوان العلم الفلسطيني في ميدان بيكاديللي، أراد متظاهر في لندن يحمل لافتة "كويرز من أجل فلسطين" أن يقول إن "كل النضالات مترابطة".
يقول معظم الأميركيين، بما في ذلك معظم الديمقراطيين، لمستطلعي الرأي إن دعم "إسرائيل" يصب في المصالح الأميركية. إلى أي مدى وإلى متى سيظل هذا الوضع؟ الأمر يعتمد على سلسلة من الأمور المجهولة بدءاً بالسلوك الذي سيتم انتهاجه خلال الغزو البري لغزة ونتائجه، والنظام الجديد الذي قد يتبعه.
من وجهة نظر إسرائيلية فإن مسار الرأي العام في أميركا على المدى الطويل مثير للقلق. كذلك في أوروبا، فمع انحسار الحرب العالمية الثانية من الذاكرة الحية وتزايد نفوذ الناخبين المسلمين، يشهد الدعم لـ "إسرائيل" تراجعاً مستمراً وخاصة لدى اليسار.
حتى عندما تنتهي الحرب، أصبح الدرس الذي سيتكشف عنها واضحاً. وسط التدفق الكبير للصور والأفكار، يتشابك الرأي العام الغربي والصراعات الجيوسياسية بطرق جديدة ومتفجرة. لم تعد الحروب الثقافية والحروب الحقيقية صراعات منفصلة.
نقلتها إلى العربية: زينب منعم.
* نقلا عن :الميادين نت