لم التق الكاتب الصحافي السعودي جمال خاشقجي الا في دبي، وعلى هامش اجتماعات جائزة الصحافة العربية التي كانت تقدم سنويا الجوائز لأفضل النصوص في مختلف مجالات الانتاج الصحافي… ولقد قدم لي بعض كتبه، واتفقنا على التواصل المهني برغم الاختلاف في الموقف السياسي الذي لا يفسد للود قضية.
مرت الايام، وكان يتصل بي بين حين وآخر، لا سيما حين تواترت الاخبار عن قرب اقفال “السفير”، وكان اتصاله الأخير بعد الاقفال حيث ابدى حزنه على غياب “السفير”، واعداً بالمرور اذا تيسرت له الفرصة لزيارة بيروت..
.. وحين قام ولي العهد السعودي محمد بن سلمان باحتجاز البعض من ابناء عمومته وخؤولته، مع عدد من كبار رجال الاعمال، وابتزهم فلم يفرج عن معظمهم الا بعد أن دفعوا “الجزية” نقداً وتنازلات عن بعض الاسهم المذهبة وبعض الشركات التي يملكون، خطر ببالي أن اطمئن على جمال خاشقجي.. لكنني كنت اعرف انه في واشنطن، وانه يكتب في بعض كبريات الصحف الاميركية، مقتربا من الاوضاع في مملكة الصمت والذهب بالإيماء وليس بالكلام الصريح.
.. وتابعت اخبار جمال خاشقجي في اسطنبول، وشاهدت صوره مع خطيبته التركية، واستغربت ذهابه إلى القنصلية السعودية للحصول على تأشيرة لخطيبته، وافترضت انه قد سوى اموره مع القيادة في المملكة، والا فلا شيء يضطره للعودة إلى “السجن المذهب” كما تعارفنا على تسمية مملكة الصمت والذهب..
ثم.. كانت الصدمة: دخل جمال خاشقجي القنصلية ولم يخرج منها، بينما خطيبته تنتظره خارجها، وهي ما تزال تنتظره، برغم يقينها انه لن يعود.
كان طبيعياً أن تنكر المملكة معرفتها بالأمر، ثم أن توفد من يحقق في سر اختفاء هذا المعارض الذي مشى بقدميه إلى معتقله الذي يبدو انه قد تحول إلى “مدفنه”، لا سيما بعد وصول أكثر من بعثة تحقيق سعودية إلى القنصلية والبحث فيها بلا جدوى، والاكتفاء بنفي الرياض الذي لا يجدي الا في تأكيد التهمة، التي صارت “جناية”، بعدما حسمت انقره الامر، فطالبت الرياض بأدلة قاطعة حول وجوده حياً، وليس الاكتفاء بإيفاد بعثة من الخبراء للبحث عنه في القنصلية التي تحولت إلى مغارة علي بابا.
عادت إلى ذاكرتي، عبر متابعتي “قضية” جمال خاشقجي حادثة مشابهة جرت بالقرب من مكاتب “السفير” في بيروت مع المعارض بل المناضل السعودي ناصر السعيد.
كان ناصر السعيد صديقاً حميماً، وقد التقيته مراراً في القاهرة حيث كان يقيم كلاجئ سياسي.. ثم جاء وقته بعد ثورة اليمن (السلال) في 26 ايلول 1962.. فبعثت به القاهرة إلى صنعاء، حيث تولى الحملة على حكام السعودية، وهو يعرف الكثير من مآثرهم، ايام كان قائداً نقابياً، ثم مناضلاً سياسياً، قبل أن ينجو بجلده فيطير إلى القاهرة..
ومن مآثر هذا المناضل الذي لا يتعب انه اكتشف بينما كان يجول في القاهرة أن ثمة شارعاً باسم الملك عبد العزيز آل سعود.. فبادر إلى ارسال برقية إلى محافظ القاهرة يطالبه فيها بحذف اسم “هذا الخائن” فوراً. لكن المحافظ لم يهتم لبرقية تأتيه من مجهول، فما كان من ناصر السعيد الا أن ابرق إلى وزير الداخلية، ثم إلى رئيس الحكومة، واخير إلى الرئيس جمال عبد الناصر.. ولا جواب. على هذا فقد توكل ناصر على الله، وحمل على سيارته سلماً وذهب ومعه سطل من الدهان، واوقف سيارته في اول الشارع المعني، ثم ارتقى السلم وباشر تغيير اللافتة إلى “شارع الجزيرة العربية”..
جاء الشرطي فاستغرب المشهد، وصاح بناصر: بتعمل ايه يا جدع؟!
رد ناصر من دون أن يتوقف عن العمل: وانت مالك، امشي.. هيا!
قال الشرطي لنفسه: اكيد، ده مسؤول.. طيب، وانا مالي صحيح؟!
لكن “الاجهزة” تحركت بعدئذ، فهرب ناصر السعيد، وظل اول الشارع بلافتة جديدة، وآخره باللافتة الاصلية.
بعد أن استقر ناصر السعيد في بيروت، ونشر فيها كتابه الأخير عن “تاريخ آل سعود”، ظل يتردد على “السفير” برغم نصائحي بالتستر وعدم الظهور الا في حالة الضرورة القصوى..
ذات يوم، جاءني المرحوم سمير فرنجية، فرحبت به صديقاً جاء يطمئن عليّ في “السفير”.. غير أن سمير فرنجية فاجأني بانه على موعد مع ناصر السعيد..
وبالفعل، وصل ناصر بعد دقائق، وقد “تنكر” في “ملابس عربية”، واخفى بعض وجهه بالكوفية، فصرخت به: وتعطي مواعيد عندي ايضا ومن دون علمي؟ ماذا بوسعي أن افعل مع مطارديك، وهل تظن قد تخدعهم بهذا التنكر؟..
تركته مع سمير فرنجية، وعدت إلى عملي… بعد حين جاء فودعني وخرج من المبنى الذي كانت فيه “السفير”، وهو غير بعيد عن مبناها الحالي.
في اليوم التالي سرت شائعة عن اعتقال ناصر السعيد.. ثم تأكد الخبر، وثبت انه كان “لأبي الزعيم” يد في الاختطاف، ونقله إلى المطار حيث كانت طائرة سعودية تنتظر فأقلته على عجل… ثم اختفى وكأنه لم يكن.
.. وقيل أن من في الطائرة قد القوه منها، وهو مكبل اليدين، فوق صحراء الربع الخالي..
*****
نتمنى، من صميم القلب الا يكون مصير جمال خاشقجي مماثلاً لمصير ناصر السعيد.. خصوصاً وان ولي العهد الذي بلغ به النفاق اللازم لنجاح المؤامرة، انه نزل بجلال قدره ليقبل قدمي ولي العهد الاصيل، الامير محمد بن نايف، قبل أن يخلعه، ويزج به في السجن، بينما أكرم امراء آخرين، وصفوة من رجال الاعمال فسجنهم في فندق “الريتز” وهو أحد أفخم الفنادق في العالم… ولا تغير الفخامة طبيعة السجن، خصوصاً وهو يحمل عنوان ظلم ذوي القربى، وهو اشد مضاضة من السيف المطهم!
هل نقول: رحم الله جمال خاشقجي، كما ترحمنا على ناصر السعيد؟!
نتمنى الا يكون ذلك قد حدث.. لكن الامل يكاد يكون معدوماً!
متى تتخلص هذه الامة من حكام الظلم والظلام، والقتل غير المبرر، وسرقة الكعبة وسائر ما تحتويه الارض المقدسة التي تزال منها، ومن مكة المكرمة خاصة، ما يشهد لها بتاريخها الذي لا مثيل له ولا شبيه!
*نقلا عن “رأي اليوم”