إبراهيم الحكيم / لا ميديا -
قبل تسع سنوات من الآن، كنت عائدا منتصف الليل، من عملي بصحيفة “الثورة”. كانت ليلة مقمرة، ضوء القمر فيها ساطع، تكاد تلمح معه طائرات “عاصفة الجرم” وعلى نحو يعيد إلى الأذهان ويبث اجواء أسطورة تحول البشر المصابين بمس شيطاني إلى وحوش مستذئبة أو مصاصي دماء حين اكتمال القمر!
لم أكن فزعا بغارات ما سميت “عاصفة الحزم”، قدر ما شعرت بالأسى والغبن لإصرار دول الوصاية العشر على إنفاذ تهديداتها، وفرض عودة أدواتها وتمكينهم، وتنفيذ أجندة التقسيم والاحتلال، بالقوة العسكرية. بعد فشل القوة السياسية لمجلس الأمن الدولي في تمريرها عبر بند “الوصاية الدولية” و”شرعية الأدوات” العميلة!.
فعليا، لم أكن متفاجئا، فقد كنت أتوقع العدوان، وكتبت عنه قبل أن يبدأ بثلاثة أيام فقط تقريرا رصدت فيه مؤشرات تشي به، جمعتها عشية يوم الاثنين 23 مارس 2015م، من تصريحات هادي ووزير خارجيته، ووزير خارجية السعودية، ورئيس استخبارات المملكة، وزيارات لمحمد بن سلمان ذات طابع عسكري...
أتذكر أني نشرت التقرير في أولى صحيفة “الثورة”، التي كنت كُلفت -منذ ثلاثة أشهر- بتسيير شؤونها قائما بأعمال رئيس التحرير، واستعجلني الزملاء لتسليم التقرير فكان آخر ما سلم لعدد يوم الثلاثاء 24 مارس 2015م، بعنوان: “هادي يطلب تدخلا عسكريا خليجيا والفيصل يلوح بالاستجابة”.
لهذا لم يتبادر إلى ذهني للحظة، أن أصوات أعيرة النيران قد تكون اشتباكات مع تنظيم القاعدة، الذي كان بدأ تنفيذ هجمات مكثفة ليس أبشعها قبل 5 أيام فقط تفجيرات مسجدي بدر والحشحوش في العاصمة صنعاء ومحاولة تفجير مماثل استهدفت مسجد الهادي في صعدة لولا أن اكتشفت اللجان الشعبية الانتحاري.
استبعدت هذا الاحتمال تماما، رغم تصاعد هجمات تنظيم القاعدة وانكبابه على زرع العبوات الناسفة بجوار المرافق العامة بما فيها المدارس. كنت أستطيع تمييز أصوات المضادات الأرضية للطيران عن غيرها من العيارات النارية والقذائف، منذ خبرتها بعمر 17 عاما، في حرب صيف العام 1994م، المشؤومة.
حين بدأت الغارات كنت وصلت منزلي للتو عائدا من الصحيفة، فصعدت إلى سطح المنزل، وبدأت أتابع اتجاه قذائف مضادات الدفاعات الجوية، وإذا بها تنطلق من كل اتجاهات العاصمة، شرقا من جبل نقم، وغربا من جبل عيبان، وجنوبا من جبال عطان، وبصورة أكبر من جبال أرحب في الجهة الشمالية.
كنت أسكن في الشمال الشرقي للعاصمة، ويطل منزلي على شمال العاصمة، حيث تقع مؤسسة الثورة للصحافة، وحيث مطار صنعاء الدولي وقاعدة الديلمي الجوية، وغيرها من معسكرات الدفاع الجوي التي استهدفتها الغارات الكثيفة للإجهاز على ما نجا من تدمير سابق ممنهج لقدرات اليمن الدفاعية الجوية.
بدأت حينها، أوثق بهاتفي مجريات اللحظات الأولى للعدوان. ألتقط مقاطع فيديو لسماء العاصمة، أصوات الطائرات الحربية المعادية ومطاردة مضادات الدفاعات الجوية لها. فقد كنت حينها بجانب عملي بهيئة تحرير صحيفة “الثورة”، أعمل أيضا في الفترة الصباحية نائبا لرئيس دائرة الأخبار في قناة “اليمن اليوم”.
كنت أحتاج الفيديو لكتابة تقرير تبثه القناة، بين مئات التقارير التي كتبتها لاحقا عن العدوان. وبمجرد أن نزلت من سطح المنزل، فتحت التلفاز، وبدأت أستعرض القنوات الإخبارية، حتى توقفت عند قناة “العربية”، تبث على الهواء مباشرة مؤتمرا صحافيا لسفير السعودية في العاصمة الأمريكية واشنطن، عادل الجبير.
فور إعلانه عن بدء ما سماها “عمليات عسكرية مشتركة في اليمن دعما للشرعية” وضد من وصفهم بـ”الانقلابيين الحوثيين”، وأنها “بطلب الرئيس الشرعي بعدما تمكنا من تأمينه ونقله”، قاصدا تهريبه من صنعاء ثم من عدن؛ أدركت أننا أمام عدوان أمريكي بريطاني تنفذه الدول التي ذكرها الجبير بقيادة بلاده السعودية.
عزز هذا لدي، حديث الجبير عن أن هذا التدخل (العدوان) يأتي “بعد تنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي وتدارس مسبق مع مؤسسات الأمن والدفاع لدى حلفاء السعودية أمريكا وبريطانيا”، وبدعوى “إعادة السلطة الشرعية ممثلة بالرئيس المنتخب والحكومة المنتخبة” رغم أن كليهما لم ينتخبهما الشعب بانتخابات عامة تنافسية!
أرسلت على الفور رسالة إلى فني التشغيل المناوب بقناة “اليمن اليوم” ليلتها، الزميل بلال الموتي، نصها “عاجل: السعودية تشن عدوانا جويا على العاصمة صنعاء” وطلبت تثبيته حتى أوافيه بأي مستجدات. وأعتز أن هذا الخبر كان الأول بين أخبار وسائل الإعلام المحلية، في تسمية ما يحدث “عدوانا” وليس “غارات جوية سعودية”.
لم أكمل متابعة المؤتمر الصحافي لسفير السعودية، الذي بدا إخراجه مشابها للمؤتمرات الصحافية لوزارة الدفاع الأمريكية، فقد انقطع التيار الكهربائي. لكني بقيت أتابع عبر “الواتس آب” رسائل الزملاء في مختلف أحياء العاصمة صنعاء، وهم يذكرون أولا فأولا ما يجري في أحيائهم من غارات وما يعلمون عمَّا استهدفته بقصفها وآثارها.
ظللت أمد فني التشغيل المناوب في القناة بالأخبار، لبثها بشريط العاجل أولا فأولا وهكذا. ظل أهل بيتي نائمين لم يطلهم إفزاع الغارات لغالبية اليمنيين. وفي الصباح أخبرتهم ما يجري، وطُرح للنقاش “ماذا نفعل؟”، فصرفت النظر تماما عن مقترح السفر للقرية، وحُسم النقاش بقرار البقاء في منزلنا، ومواجهة قدرنا المكتوب.
غادرت بعدها المنزل بإلحاح رغبة الاطمئنان ودافع معرفة الآثار التي خلفتها الغارات الكثيفة على العاصمة صنعاء. زرت منطقة مطار صنعاء ومديرية بني الحارث، وتحديدا حي بني حوات، حيث كانت أولى مجازر العدوان باستهداف طيران العدوان منازل المدنيين، وقتله وجرحه العشرات. جمعت المعلومات والتقطت الصور.
بعد العصر شاركت في المسيرة الرافضة للتدخل والعدوان الخارجي. وعُدت إلى الصحيفة، قبل المغرب، وجلست مع الزميل عبدالله صبري، المعين منذ أيام رئيسا للتحرير، وناقشت معه رؤية التغطية على أربعة محاور: الحدث وآثار الغارات الجوية، خلفياته ومقدماته، التداعيات، والأصداء والمواقف المحلية والإقليمية والدولية، وهو ما كان.
أتذكر أني كتبت التقرير الرئيس للصفحة الأولى ونُشر في معظم مساحتها، عن العدوان وأولى مجازره وآثار غاراته والأصداء والمواقف الإقليمية والدولية وعن المسيرة الشعبية الحاشدة الرافضة للتدخل الخارجي ومواقف الأحزاب والمنظمات المدنية. وسميته حينها “عدوانا أمير صهيو جي”، اختصارا لأمريكي صهيوني سعودي خليجي.
عنونت التقرير الرئيس “غارات العدوان السعودي الأمريكي استهدفت أحياء سكنية وتدمير المطارات والمنشآت الدفاعية.. اليمنيون: لن نخضع.. والبادئ أظلم”. كما كتبت تقريرين منفصلين على عجل أمام تصاعد قصف طيران العدوان وإلحاح الزملاء في هيئة التحرير والإدارة الفنية بالاستعجال، كما هو حال باقي الأيام المتتابعة.
مضت الأيام وبقيت أتناوب والزملاء في إدارة الأخبار، على كتابة التقرير الرئيس للصحيفة، متضمنا رصدا شاملا لمحصلة غارات العدوان وآثارها التدميرية للمرافق المدنية والأحياء السكنية وضحاياها من المدنيين والتداعيات السياسية الداخلية والخارجية، غير آبهين بخطر تعرض المؤسسة للقصف، رغم تهديد ناطق تحالف العدوان بذلك علنا.
صرح العسيري بذلك بالفعل، في أول أو ثاني مؤتمراته الصحفية، ولم نأبه لتهديداته التي سرعان ما نفذها تحالف العدوان باستهداف وسائل الإعلام المناهضة له قصفا وحجبا وانتحالا، ليقيننا بأن العدوان باطل سينكسر ومقاومته حق سينتصر، وأن اليمن لن يقهر بشعبه وقيادته، وحتما سيستقل عن الهيمنة والوصاية الخارجية وأدواتهما.
تلك خلاصة لشهادة مستفيضة، كنت سجلتها في استطلاع حمل السؤال: أين كنت ليلة العدوان على اليمن 26 مارس 2015م؟ أعدته الزميلة مها موسى، ونشر في صحيفة “الثورة” في الذكرى الخامسة للعدوان الأمريكي البريطاني السعودي الإماراتي على اليمن. رأيت إعادة مقتطفات منها، بمناسبة حلول الذكرى التاسعة للصمود الوطني.
* نقلا عن : لا ميديا