يونس عودة*
تجتاح الغرب المؤيد للكيان الصهيوني المؤقت، وعلى رأسه الأفعى الكبرى الولايات المتحدة الأميركية، مجموعة واسعة من الأسئلة الواقعية باتت تناقشها النخب الثقافية والإعلامية، وبالأخص صنّاع المستقبل، أي طلاب الجامعات بصوت عالٍ وبتحدّ لقبضة القوّة البوليسية. والسؤال المحوري يتلخص حول ما إذا كانت جميع المكونات الاجتماعية في الغرب ضحية على مدى عقود لخداع خطير، لا بل مدمّر للقيم الإنسانية والبشرية عن سابق تصور وتصميم؟ وهل فعلًا يكون للمتسائلين المعصوفين بالحقائق نصيب من العار التاريخي؟ أم أن الاستفاقة من الغيبوبة تكفي لمحو العار؟ وبالتالي، العمل على إنتاج بدائل ترتقي بها وعبرها الإنسانية إلى مكانها الصحيح.
لم تكن التظاهرات المدوية والسلمية والمتمددة إلى غالبية الجامعات الأميركية والأوروبية كنارٍ في هشيم الغرب الآفل، إلا تعبيرًا عن سخط كامن على الأكاذيب المروعة التي حمت الكيان الإسرائيلي، وتعبيرًا أيضًا عن نصرة فلسطين وشعبها المذبوح، لكنّها أيضًا في الجوهر تشكّل رفضًا للنظم السياسية القائمة كشريك فعلي في حرب الإبادة. وفي هذا السياق عنونت صحيفة الـ”غارديان” البريطانية: “أيهما أسوأ أكاذيب “إسرائيل” بشأن غزّة أم الداعمين الغربيين لتلك الأكاذيب؟ لتقول: تخدعني مرة، عار عليك؛ تخدعني مرتين، عار عليّ”.
لم تفكك الصحيفة الرموز الحقيقية في ترديد الغربيين أقاويل “إسرائيل” الكاذبة، لكنّها تلقي الضوء على سلسلة من الأضاليل، حيث “خدعت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة وجيشها من الدعائيين السياسيين والصحفيين الغربيين، ليس مرة أو مرتين، بل عدة مرات”. وترد في السياق أمثلة كثيرة.
هناك الكثير من الأكاذيب والتشويهات التي يجب تتبعها. أربعون طفلًا تقطع “حماس” رؤوسهم؟ لم يحدث أبدًا. أطفال يُخبزون في الأفران أم يُعلقون على حبال الملابس؟ خطأ شنيع. مخبأ على طراز بوند الشرير تحت مستشفى الشفاء؟ غير صحيح. هل قُبض على الفلسطينيين في غزّة أمام الكاميرا وهم يتظاهرون بإصاباتهم؟ تلفيق كامل. قائمة بأسماء محتجزي الرهائن من حماس الموجودة على جدار مستشفى الرنتيسي للأطفال؟ عذرًا، لا، كانت مجرد أيام الأسبوع في التقويم باللغة العربية.
ماذا عن الفظائع التي اتُهمت القوات الإسرائيلية بارتكابها، والتي أنكرتها “إسرائيل” بصوت عالٍ، ثمّ تبين في ما بعد أنها مسؤولة عنها؟ مذبحة الطحين في شباط/فبراير؟ قصف قافلة اللاجئين في تشرين الأول / اكتوبر الماضي؟ هجوم الفوسفور الأبيض في جنوب لبنان؟
في البداية، منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى وربما لبضعة أسابيع، تمكّنت البروباغندا الإسرائيلية الفتاكة في الدوائر السياسية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية والإعلامية مسنودة بقادة الغرب وشبكاته الإعلامية من الفتك في عقول العامة الذين طالما كانوا ضحايا لكل أنواع الكذب والتضليل. لكن ما إن بدأ الرشد يعود مع الاطلاع على مشاهد الإبادة اليومية، واتهامات مجرمي الكيان لكل من قارب الحقيقة بمعاداة السامية وصولًا إلى الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، ومع الدور المركزي للاعلام المقاوم في كشف زيف الدعاية السوداء التي انخرط فيها قادة أميركا والرئيس نفسه جو بايدن، كل هذا أحدث صحوة عالمية يمكن المراكمة والمراهنة عليها في صياغة مستقبل جديد للبشرية.
لقد تمكّن محور المقاومة بوضوحه في مقاربة القضية، أكان في الميدان شهداء وجرحى وعرقًا ودمًا أو في الجهود السياسية الهائلة، مع التزامه المطلق بالقيم الأخلاقية والإنسانية في الصراع بمستوياته السياسية والعسكرية والثقافية والإنسانية من كسب أربعة انتصارات في واحدة من أعقد المعارك في سياق الحرب، من دون مقاربة النتائج العسكرية والاقتصادية للحرب:
* تمزيق السردية الغربية – الإسرائيلية التي سيطرت على مدى عقود وإلقاء ركامها أمام أعين العالم بأجمعه، والتمسك والصبر مهما كان الأذى حتّى من بعض أبناء الجلدة، وكان صبرًا أيوبيًا بكلّ ما للكلمة من معنى.
* استنهاض كلّ حر في العالم، وطرح الحقائق الدامغة أمام كلّ من يسعى إلى الحقيقة، ما أنتج يقظة مثقفين حول الأرض ليقاربوا ما يحدث بواقعية مشهودة ويكونوا صوتًا يدعو للصحوة والخروج من القفص إلى الحرية الحقيقية، والدفاع عن الديمقراطية غير المزيّفة. وليست الحركة الطلابية في الغرب، وبالأخص في الولايات المتحدة وإشعاعها على الجامعات الأوروبية إلا رأس جبل الجليد، وهو يشبه إلى حد بعيد ما حدث من فجوة بين الرئيس الأميركي في الماضي لندون جونسون والشارع الأميركي بسبب أكاذيب الإدارة عن العدوان لتنطلق الشرارة من جامعة كولومبيا إلى كلّ الجامعات، ومن ثمّ إلى أوروبا تمامًا كما يحدث اليوم؛ حيث يُتهم الرئيس بايدن أنه منخرط في حرب الإبادة ويغطي الجرائم الإسرائيلية ويقمع الحركة الطلابية بشرطته وعسكره كما الفاشيون تمامًا مقابل تحدي الطالبات كما الطلاب بالإصرار على ثبات شعارهم وقف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني.
* فضح الليبرالية الجديدة بكلّ مكوناتها ولا سيما الجانب الفاشي لمؤيديها وببعدها الاجتماعي في هندسة المجتمعات من مروجي الحروب للسيطرة على الحقوق الوطنية من خلال النظام الاحتيالي وهو بات آيلًا إلى السقوط بعد انكشاف المكر الأكثر دناءة منذ فجر البشرية.
* كشف فساد تهمة معاداة السامية وإسقاطها في ركن معاداة الإنسانية، وهو ما عبر عنه يهود أعلنوا معاداتهم للصهيونية وللكيان الصهيوني لأنهم أنزلوا تشويها في الدين اليهودي نفسه وهو ما أسهم بسحب جامعات أميركية تعاونها مع جامعات إسرائيلية.
بات من الوضوح في المشهد العالمي ما يمكن الرهان عليه بأن صحوة عالمية تشدّ الخطى نحو عالم جديد، ستكون البصمة الأوضح على صدره، بصمة المقاومين بالدم وبكل ما غلا، بينما العار سيلحق بكلّ من سوّغ وتواطأ أو كان شيطانًا أخرس من مشارق الأرض إلى مغاربها.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري