«لست متفائلاً»، «هذا ليس التغيير المطلوب»، «لا ترفعوا سقف توقعاتكم»، «لماذا لم يتم تعيين رئيس وزراء شاب؟»، «أين السيرة الذاتية للرهوي؟»، «ما الذي لم يستطع فعله ابن حبتور وسيفعله الرهوي؟»، «علينا الانتظار قليلاً قبل أن نبدأ بالنقد»... هذه بعض تعليقات الناشطين والكتاب والمدونين (المستعجلين) بعد إعلان تكليف أحمد غالب الرهوي بتشكيل حكومة التغيير والبناء. أغلبها أحكام مسبقة ومقاومة غير مباشرة للتغيير، بطريقة توحي بأن مسؤولية التغيير تقع على عاتق الحكومة لوحدها، ونحن دورنا النقد أو الإشادة، دون أن نكون شركاء حقيقيين في صناعة التغيير للأفضل.
مشكلتنا تكمن في عدم فهم هدف النقد، أننا لا نميز بين التثبيط والتربص والنقد؛ فالتثبيط هو محاولة زرع اليأس والإحباط في نفوس أصحاب الهمم والإرادة، وهذا سلوك مذموم وليس نقداً. وأما التربص فهو سلوك الحاقدين والحاسدين الباحثين عن الثغرات والعثرات لدى أصحاب الأفكار والأعمال، لتقبيح هذه الفكرة أو ذاك العمل، متربصين بالمجتهدين حقداً وحسداً. أما النقد فشيء آخر تماماً، هو علمياً مراقبة الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وسلوك السلطات ومحاولة تقييمها وتقويمها، وهذا أمر إيجابي، يسهم في تدارك الأخطاء مبكراً ويؤسس لتنمية حقيقية وبناء مستدام، وعند فهمنا للنقد ندرك أننا أمام واجب مقدس بضوابطه وأصوله، وصدق نوايانا.
كثيرة هي مناهج النقد، ومدارسه متعددة. وأول من نقد الأفكار الدينية والسياسية والاجتماعية السائدة هم فلاسفة اليونان، كأرسطو وأفلاطون والرواقيين... وتطورت مدارس النقد مع نهاية القرن التاسع عشر، لتصل إلى نقد الكتاب المقدس، من الناحية الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية. ويعتبر القرآن الكريم أول كتاب يتحدث عن النقد عربياً، ويفرد له آيات وسوراً، من خلال نقد تجارب وسلوك الأمم السابقة، حيث بيّن لنا في نقده العلل والأخطاء التي كانت سبباً في انهيار تلك الأمم، حتى لا نقع فيها، إذ نقد قوم عاد وثمود وهود وصالح ونوح ولوط وغيرها من الأقوام والأمم، حتى قيل إن ثلث القرآن كان نقدا للتاريخ، وهو لا يكتفي بالنقد، إنما يذيل نقده بقوله تعالى في سورة يوسف: «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب». وانتقل القرآن في نقده من الأقوام إلى الشخصيات الدينية، حيث ركز كثيراً في آياته على الشخصية «الإسرائيلية»، وقام بنقدها نفسياً وإيمانياً وسلوكياً، وحذرنا من أن نقع في ما وقع به «بني إسرائيل» الأوائل...
لقد قبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نقد واعتراض امرأة، كما في حادثة خولة بنت ثعلبة الشهيرة، التي بقيت تجادله في قضية تخص النساء بمسألة الظهار، حتى نزل الوحي موافقاً لنقدها واعتراضها، وحمل القرآن سورة باسمها: «سورة المجادلة»، ولم يغضب رسول الله من نقد أصحابه في قضايا عسكرية وقضائية ودنيوية، ولم يترفع عن النصيحة. وكان الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أول زعيم دولة يجعل نفسه ومكانته مباحة للنقد، إذ قدم بياناً لذمته المالية، وقال للناس: «أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي هذا، فإن خرجت بغيرهن، فأنا خائن».
مما تقدم، وإذا استطعنا التفريق بين «التثبيط والتربص والنقد»، سيدرك كل فرد موقعه ودوافعه. وقبل أن يمنح الإنسان نفسه الحق بالنقد، عليه أن يفكر هل نقده بنّاء، وما هو النقد البنّاء والمنصف الذي علينا أن نتحلى به، مبتعدين عن المبالغة في المدح والإطراء، أو حتى في الذم وجلد الذات، فالنقد البنّاء يعتمد على قياس نطاق موضوعي، بذكر إيجابياته وسلبياته، فيما يظهر منه، دون الحكم على النوايا، لأن التعصب والحكم المسبق، وعشوائية التقييم، عوامل تدمر الناقد أولاً، وموضوع النقد ثانياً، وهي أبعد ما تكون عن المنهج العلمي المنصف في التحليل، والتقييم، والنقد.
حاجتنا إلى نقد واقعنا وتاريخنا ماسة وضرورية، لنتلمس من خلال النقد مواقع الخلل التي تأسست عليها ثقافتنا اليومية، وأنتجت سلوكيات خاطئة تحتاج الى معالجة. وقبل ذلك كله نحن بحاجة إلى النقد الذاتي واستدراك الأخطاء بتصحيحها، والمباشرة في المضيِّ بخطوات واثقة نحو مسار ناضج وقويم.
وكما ينطبق هذا الأمر على الفرد، فإنه ينطبق على المجتمع. وهنا يأتي تفصيل الخطوات التي يجدر بنا الإشارة إليها في حديثنا عن النقد الذاتي، وأهميته في إصلاح الفرد والمجتمع. فالنقد الذاتي للفرد يبدأ بمراقبة النفس في حاضرها وماضيها، منشغلاً بأخطائها عن تتبع أخطاء الآخرين، ليتمكن من محاسبتها وتقويم مسارها، وذلك بالإنصاف والتعقل؛ لأن الغاية هي تقويم السلوك والفكر، والارتقاء بمستوى الشخصية الإنسانية بكل أبعادها.
وأمام نقد الذات سيبرز الكثير من التحديات والصعاب في طريق المهمات العظيمة؛ إذ تكمن صعوبة النقد الذاتي الفردي في كونه أحد أشكال مواجهة الفشل. وهنا قد يقع الإنسان في فخ اليأس والاسستسلام. ولتجاوز ذلك عليه أولاً أن يقي نفسه من الوقوع في اليأس، حتى يواصل المسير نحو إصلاح ذاته وتنميتها، علماً بأن في النقد الذاتي فرصة للمصارحة، وتجربة لمدى صدق المرء مع ذاته، فمواجهة رغبات الإنسان ونقاط ضعفه ولحظات خذلانه، ليس بالأمر الهين، وهذا يقوده إلى اكتساب الشجاعة والإصرار في تحمل مسؤوليته الذاتية، مغلقاً الطرق أمام الإحباط والمماطلة. ولذلك لا بد قبل البدء بالنقد الذاتي من تقدير الظروف المحيطة به جيداً، ومعرفة مدى تأثيرها في القرارات الشخصية. كما لا بد من الاتصاف بالرأفة واللين في التعامل مع الذات في لحظات الغضب، وفي لحظات اللوم، حتى لا يفقد الأمل من المحاولات، فيصبح الإنسان ممن ظلم نفسه.
لا أحد يستطيع الإنكار أن عملية النقد الذاتي مليئة بالصعوبات، مما قد يمنع الإنسان من خوض هذه التجربة. ورغم النتائج المبشرة، والتجارب الشاهدة على أنها صفقة رابحة مع الذات، إلا أن تجربة النقد الذاتي للمجتمع تبدو أكثر صعوبة وتعقيداً، وذلك لارتباطها بعدة عوامل رئيسية يتشاركها أفراد المجتمع ومثقفوه وقادته المؤثرون فيه، فالثقافة السائدة، والخطاب الإعلامي الموجه للشعب، على مدى عقود من الزمن، رسخت لدى المجتمع نظرته لمسؤولياته وواجباته وأسلوب تعامله مع ما يعترض طريقه من تحديات ومواقف. وهنا يأتي دور الإعلام والمؤثرين لمساعدة المجتمع في فهم المتغيرات الطارئة عليه، مما يساهم في مقدرته على التعامل معها بمستوى حضاري يتناسب مع مستواه الثقافي، ودوره الريادي في التغيير والبناء وتحمل المسؤولية بجدارة.
يخبرنا التاريخ أن المجتمعات التي رفضت أن تتقبل النقد الذاتي، واعتبرت نفسها أعلى من التقييم والمحاسبة، وكأنّ لها نصيباً من العصمة، تحولت إلى مجتمعات فاشلة عاجزة عن الفعل ومواجهة الذات، وفَقدت الإمكانيات لاسترداد المكانة المنشودة لها، وسلبت كل نقاط قوتها، وتحولت إلى قطيع يدار كما يراد له.
أما المجتمعات التي نهضت فقصصها كثيرة، ويمكن دراسة حالة ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، حيث انكفأت على نفسها منعزلة عن التنافس في قطار التقدم الحضاري، إلا أنها سرعان ما تجاوزت هذه العزلة لتصحو من غفوتها، وقد استفادت من ذلك الدرس الذي دفعت ثمنه الباهظ. وكذلك اليابان التي حققت معجزة حضارية في علاج جراحها، والتعافي من آثار الدمار الشامل الذي خلفته القنابل النووية في ناغازاكي وهيروشيما، علماً بأن الشعبين، الياباني والألماني، كان بمقدورهما أن يندبا حظهما لعقود من الزمن، وأن يتباكيا، ويستدرا عطف العالَم، وأن يبقيا مطأطئي الرأس، منكبين على التحديق بماضيهما، ومستغرِقين في التفاصيل المؤلمة؛ إلا أن تلك الشعوب أثبتت للعالم، ولنفسها أولاً، أنها لا تزال تتنفس الأمل، وتحيا على مواصلة المسير دون كلل، معلنة عما انتابها من أزمات وحروب وخسائر فادحة، وموقنة بمقدرتها على التعافي، واسترداد دورها الحضاري، وقد أصبحت بذلك نداً لأعتى الأُمم، في السياسة والاقتصاد والتسليح والثقافة...
أمام هذه النماذج علينا التفكير بشكل جدي؛ هل مهمتنا ومسؤوليتنا في الوقت الراهن التربص بالتغييرات الحكومية وإطلاق الأحكام المسبقة عليها؟! أم أن ثمة مسؤوليات أخرى يجب القيام بها، ابتداءً بالنقد الذاتي للفرد وصولاً إلى النقد الذاتي للمجتمع، للإسهام في ترسيخ بيئة ملائمة للتغيير الجذري وأرضية صالحة للبناء؟ لأن عملية بناء الفرد والمجتمع كفيلة ببناء اليمن الذي نريد. وما عدا ذلك ليس سوى هروب للأمام وإلقاء المسؤولية على الآخرين؛ «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، صدق الله العظيم.
* نقلا عن : لا ميديا