الذكرى الـ 1441 للهجرة النبوية على صاحبِها أفضلُ الصّلاةِ وأتمُّ التسليم، نستفيد من تفاصيلِ أحداثها دروساً مهمةً في حياة البشرية، وفي ذلك تذكيٌر وعبرة بقضيةٍ هي الأهم في الوجود الإنساني على هذه الأرض؛ لنزداد فَهماً ومعرفةً بأمور الحياة الدينية والأخلاقية والإنسانية، ولذلك تجرُّنا هذه المعطيات إلى تساؤلات أكثر عمقاً، وهي لماذا كانت الهجرة ؟ وما هي دوافعها ؟ وما هي ثمارها وأبعادها الإيجابية ؟
ولكي نحاولَ قدر المستطاع أن نعرفَ ونجيبَ على التساؤلات، علينا أولاً أن نستذكرَ ونتدبّرَ بعض الآيات الكريمات ومعانيها ودلالاتها التي نزلت بسبب هذه المناسبة العظيمة، وبذلك نصل إلى نتيجة محقّقة، مفادها يتحدث عن وجوب تخلُّص الناس مما هم عليه من الضلال والشرك والفسق، والتحرّر من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد.
إذاً فالهجرةُ سكينةٌ وأمانٌ واطمئنانٌ للمؤمنين وتأييدٌ لهم بالجنود والملائكة الذين حفظوا نبيَّ الأمة خاتمَ الأنبياء والمرسلين، ودافعوا عنه وعن المؤمنين، حتى كانت سبباً في نجاته وخلاصه من أعدائه المشركين والمنافقين، ونصراً وعزةً وكرامةً لرسوله وللمؤمنين.
الهجرةُ كانت إذناً بالخروج من مكة والانتقال إلى مكان آخرَ، يتم فيه تعميمُ الرسالة ونشرُ الإسلام وإعلانُ راية الحق التي تعلو فوق رايات الباطل بكل ما اتسمت به من توجّـهات المكر والخداع والتضليل على الناس، وتشتيت أفكارهم لينساقوا بذلك خُداماً وعبيداً للطاغوت الذي قهر المستضعفين واستذلهم، الهجرةُ النبويةُ هي خروجٌ في سبيل الله، وهي صحبةٌ مع الله، وهي انتصارٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، وهي العدالةُ الإلهية التي انتصرت للمظلومين والمقهورين، فصارت طريقاً لكسر شوكة المستكبرين الظالمين الذين سعوا في الأرض الفسادَ واستعبدوا الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
الهجرة النبوية هي المؤشر الذي حدّد الوجهةَ التي اتخذها المؤمنون سبيلاً لنشر الدعوة وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فكان لذلك الخروجِ التأييدُ والتمكينُ من الله عز وجل لعباده الذين توكلوا على الله وآمنوا به وجاهدوا وصابروا وصبروا، الهجرة النبوية هي منطلقُ الظفر للمسلمين ومبتدأُ الهلاك للمشركين، وهي الإيمانُ المطلقُ بالعناية الإلهية لرسوله الذي وقر في قلبه التعلقُ بالله والمحبةُ لله ووعدُ الله له بالنصر وبالفتح المبين، قال تعالى ( فأَنزل سَكيْنته عَلْيه وأيّدهُ بجنود لم تَروهَا وجَعلَ كلمة اللهِ هيَ العُليا وكَلمة الذيْن كفَروُا السُفلى).
الهجرةُ النبويةُ هي التخلصُ من العبودية ومن الارتهان للمخلوق، وهي الخروجُ من عباءة سلاطين الجور وعتاولة قريش، الذين سيطروا على عقولِ الناس وأساليبِ حياتهم ومعيشتهم، وتحكمت في توجّـهاتِهم طقوسُ المشركين وعبادتهم لغير الله؛ ولذلك كان من الحكمة الإلهية أن يكون هناك إرثٌ نبوي ورسالة محمدية حملَها وحقّق أهدافَها سيدُ البشرية خاتمُ الأنبياء والمرسلين محمدٌ -صلوات الله عليه وآله-، مضمونها إخراجُ الناس من الظلمات إلى النور، وانتزاعهم من مواطن الشر وغرسهم في مواطن الخير؛ لذلك فإن أركانَ الظالمين والمستكبرين إلى زوالٍ، ومصيرَ جبروتهم واستكبارهم هو انكسار وتحطيم أحلامهم وآمالهم في مواصلة الاستئثار بالقوة والنفوذ والتسلط على رقاب المستضعفين، ولذلك كان مصيرُ قوتهم التي أخرجت الصادقَ الأمينَ وَخاتمَ الأنبياء والمرسلين من مكة هو الهلاكَ المحتم، مصداقاً لقوله تعالى (وكأين من قريةٍ هي أشد قوةً من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم)
الهجرةُ النبوية هي استعدادٌ للمواجهة مع أعداء الله، وهي إظهارٌ للقوة وكمالٌ في العقيدة وبيانٌ للحُجة وإخلاصٌ للقضية الأخلاقية والإنسانية المتممةِ لمكارم الأخلاق، والتي يضحي من أجلها منذُ اليوم الأول للهجرة وحتى اليوم الأحرارُ من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكما كانت نهايةُ كفار قريش على أيدي المستضعفين من المؤمنين، فإني أرى التاريخَ يُعيد نفسَه في تقرير مصير مُمُثلي محور الشر المتربعين على أرض الحرمين، الذين ستكون نهايتهم على أيدي رجالِ الرجال اليمانيين المستضعفين في العُدة والعتاد، الأقوياء إيماناً وبسالةً وَالأشد بأساً وتنكيلاً على أعداء الله ورسوله.
الهجرةُ النبويةُ وعودٌ ربانيةٌ تتحقّق في كُـلّ زمانٍ ومكان؛ ليحيق المكر السيئ بأهله ويرتد كيدُ المنافقين على صدورهم، فلا يلبثُون بعد مكرهم وكيدهم إلّا قليلاً، لذلك يتحقّق وعدُ الله بالتأييد والتمكين لعباده المؤمنين الذين أُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في توحيدهم لله واختيارهم للهدى النبوي، فجاء الإذنُ الإلهي للمؤمنين بقتالِ من طغوا واستكبروا وكفروا وذلك هو جزاء الكافرين.