يبدو أن الزمن يسير بخطى متسارعة ,فلا يكاد المرء يلتقط أنفاسه حتى يرى أحداثا ومستجدات تعمل على قلب كل التصورات العالقة بذهنه, ويبدو أن ايقاع الزمن لم يعد هادئا ولكنه أكثر صخبا , وأكثر تسارعا في تدفق أحداثه وتغير مساراته , ولذلك لم يعد للهدوء مكان في قاموس الزمن الحضاري الجديد ,فالتقنية جعلت من الحياة أمرا ميسرا وسهلا ولكنها بسرعة زمنها ,ودقة عملها وجودته , ولذلك فالخطأ لم يعد مقبولا , والتباطؤ لم يعد مقبولا أيضا , ولابد من التناغم مع سرعة الزمن , ودقة معلوماته حتى نتمكن من السيطرة على مقاليد الاحداث .
في المشهد السياسي اليمني تكاد الصورة أن تتغير بين غمضة عين وانتباهها , فالانتقالي في الجنوب يسير بخطى الواثق إلى ترتيب أوضاعه بمساندة حكومة الرياض أو “الشرعية “- من حيث تدرك ومن حيث لا تدرك – وبرؤية واضحة الخطوات ترمي إلى فرض خيار الانفصال كأمر واقع في الجنوب, من خلال ترتيب وضع المؤسسة المالية , وفرض الحزام الأمني والعسكري إلى حدود ما قبل الوحدة اليمنية ,ومحاولة الفرز للفصائل , والتهجير للشماليين , وتصعيد خطاب عدائي ضد الشمال , وضد الوحدة الوطنية .
وبدأت الساحة الجنوبية تشهد صراعا بين الإمارات وقطر ,فضلا عن التنافس بين السعودية والامارات , وتنوع الولاءات في الجنوب بين السعودية , والامارات , وقطر , هدف استعماري واضح بهدف صرف الانظار عن القواعد العسكرية في ميون , وسقطرى ,وفرض الهيمنة على باب المندب , وتمكين السعودية في المستقبل من مد خط تصدير للنفط عن طريق الموانئ اليمنية , حتى تكون خياراتها متعددة في حال سيطرت إيران على خليج العربي , أو أغلقته – بحكم تطورات الصراع إلى حرب مباشرة – أمام السفن السعودية , ومع تقاطع المصالح بين السعودية والامارات من جهة ,وبين قطر من جهة أخرى, تصبح المعادلة اليمنية أكثر تعقيدا , فاللاعب الذي يدير رقعة الشطرنج – وهو المستعمر البريطاني والامريكي ومن ورائهما اسرائيل – يريد أن يجعل من الجنوب اليمني بؤرة متقدة لا يهدأ أوراها ,لأن حرب الجيل الرابع ذات مستويات متعددة في الاستراتيجية الغربية ،فهي ذات أبعاد اقتصادية ,وثقافية ,وعسكرية , ولذلك كان الاشتغال على تمكين التناقضات من إدارة صراعها على أرض الجنوب من باب السيطرة على مقاليد المستقبل.
الصورة الواقعية اليوم مع ظروف الحرب ,هي أن الجنوب لا يكاد يمت بصلة للشمال ,وما بينهما بون شاسع , وحجم التناقضات يزداد اتساعا كل يوم , والهوة العميقة في المسار النفسي والمسار الاجتماعي تزداد عمقا وتباينا , وبذلك تصبح قضية الوحدة الوطنية قضية مزايدة ليس أكثر, فقد تجاوزت فكرة المشروع إلى فكرة عقدة المنشار , ولا مصلحة للشعب في الشمال ولا في الجنوب في الاستمرار في هذا المسار , فالقاعدة التشريعية التي توافق عليها الفكر التشريعي الاسلامي تقول: “دفع الضرر مقدم على جلب المصالح”.
فالمصلحة المحققة من الوحدة ضررها أصبح أكبر , ومن هنا تصبح الوحدة تناقضا وضررا وليس مشروعا جامعا يفيد اليمن وشعب اليمن , وهذا هو الحال الذي سعى إليه بعض أبناء الجنوب وكان الاشتغال عليه من قبل المستعمر الغربي اشتغالا استراتيجيا عميقا, فقد وظف المعلومات بما يكفل له المصالح المرسلة ,ويكفل ثنائية الهيمنة والخضوع .
ولا يبدو الأمر أكثر وضوحا في الشمال ،وإن كان يبدو للرائي من أول وهلة واضحا دون لبس، لكنه أكثر غموضا منه في الجنوب الذي برزت تناقضاته على السطح ,ذلك أن العدوان ستر الكثير من التناقضات في الشمال تحت رماد أحداثه ,لكن تلك التناقضات سوف تفصح عن نفسها بعد أن تضع الحرب أوزارها ,باستثناء تعز, والجوف, ومارب .
في المحافظات التي تشهد صراعا اليوم (تعز ,مارب, الجوف) أصبح الصراع يشكل امتدادا لما هو مثيل له في الجنوب , ويبدو أن الاخوان هم الحلقة الأضعف في سلسلة الأحداث , وهم الجماعة التي سوف يستهدفها الصراع بالتحجيم , والتقليل من الدور والفاعلية والقيمة والمعنى , ولعل غباء الإخوان قد ساهم في هذه النتيجة التي وصلوا إليها سواء في الجنوب أو في المحافظات المذكورة , ويمكن أن يقال في الشمال كله، وقد كان موقف اليدومي في هذا الشأن واضحا فهو يرفض الاستقرار, وقد قال إن حزبه لن يجلس على قارعة الطريق , ولكنه سيكون حاضرا في صناعة المستقبل , وقد بدأت تلك الاشارات تؤتي أكلها من خلال حركة الاغتيالات التي تحدث لرموز السلفية ولغيرهم والصراع البيني المسلح في أكثر من مكان في اليمن .
والصورة التي تبدو للمراقب العادي في صنعاء هي التباين الواضح بين المؤتمر وأنصار الله ,في الأسلوب، وفي الرؤية ,وفي طرق المعالجة , والمتابع يرى هروب كل طرف من مواجهة استحقاقات الزمن الاستثنائي الذي تمر به اليمن , وتبادل الاتهامات في هذه المرحلة العصية لا نراه يخدم عملية التوافق والشراكة بين المكونين الوطنين –انصار الله والمؤتمر – كما ان الاستغراق في المقدمات لا يخدم النتائج إلا بأثر سلبي وقد يكون ذلك الأثر مدمرا وباعثا على تجدد الصراع بصورة أو بأخرى .
من جانب آخر تبدو ثقة الطرفين ببعضهما غير متوفرة , والشكوك تحيط بكل طرف، وثمة عوامل مساندة لتلك الشكوك يعمل فيها طرف ثالث بهدف زرع الشقاق , وخلق التباينات , ليفرد لنفسه مساحة حرة يستطيع من خلالها إدارة اللحظة , والسيطرة على مفردات الصراع , ورغم محاولاته وسعيه الحثيث إلا أنه مازال عاجزا عن توسيع دائرة المساحة ،فهي كلما اتسعت ضاقت عليه بوعي العقلاء , لكن استمرار الاشتغال سيجعل الخرق يتسع إذا استمر الإعلام في النفخ في دائرة التباينات ومثل ذلك ملحوظ في وسائل الإعلام المقروء والمسموع .
***
صناعة المستقبل تتطلب وعيا حقيقيا وتجردا موضوعيا ،وهي فكرة قابلة للتحقق إذا صفت النوايا , وتم التوافق على أسس وطنية واضحة في الشراكة , ووضع رؤية ذات عمق استراتيجي وطني يخدم البناء ولا يسعى للهدم .
أما موضوع الحرب فلن يستمر كثيرا, فدول العدوان تبحث عن مخرج , ومرتزقة الرياض هم الآن في أسوأ الاحوال , والصراع الجديد بدأ يتحدث عن صورة أخرى عمَّا كان عليها الحال في بدايته .
ويمكن الاستفادة من الواقع الجديد – إذا توفر الوعي السياسي الذي يقتنص الفرص في اللحظات الزمنية الفارقة – لتحقيق عوامل انتصار جديدة في المسار العام ,سعيا على حصار العدو في دوائر ضيقة , من خلال الاشتغال على دوائر تناقضاته وخلافاته , واستغلال الكتابات التي تتناوله في الصحافة العالمية , وتضييق مساحات تحركه على الأرض , فالحرب ليست جبهة مواجهة في الخطوط الأمامية ولكنها حرب ذات مستويات متعددة علينا الاستعداد لمواجهتها في كل المستويات وكل مستوى من المستويات له أدواته وسلاحه وله رجاله والوعي بالضرورة يفرض الادوات .
دوليا ..يشعر المجتمع العالمي بقلق من الحرب في اليمن , ويجد أن الخروقات في القانون الدولي تنعكس بشكل سلبي على سلطة المجتمع الدولي , ويشعر بفقدان الصورة المثالية التي رسمها الزمن في التصور الجمعي العالمي , ويرى الكثيرون أن ما تقوم به السعودية من شراء للضمير العالمي بالأموال قد يشجع أطرافاً مماثلة على سلوك هذا الطريق , وبذلك ينفرط العقد المتماسك للقانون الدولي , ويعود العالم إلى حروبه التي تجاوزها في منتصف القرن العشرين.
الخلاصة :
كل حركة الواقع اليوم تصب في صالح القضية اليمنية , وهي تحتاج شعورا مضاعفا بالمسؤولية الوطنية , وتجردا موضوعيا للقضية , وترفعا عن الصغائر , وتحتاج توافقا واعيا وبصيرة ووعيا حذرا وقدرة على اقتناص اللحظة الفارقة .