أصبح الحديث عن الدولة المدنية الحديثة هو حديث المناخ الثوري الذي انبلجت تباشيره عام 2011م تحت ظروف ومناخات الربيع العربي وأخذ كل تيار يفلسف الدولة المدنية وفق مفهومه ورؤيته هو، إلى درجة أن الاجماع عليها يكاد يكون تبايناً واضحاً في الرؤى ،فالقوى الدينية- وأخص منها القوى ذات التوجه السلفي والسني -ترى فيها خروجاً على الفطرة.
فالمساواة في المواطنة لا تعني في مفهومها إلاّ المثلية أي زواج الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وذلك هو مستوى تفكيرها إذ أنها طوال تاريخها الممتد عبر الأزمنة لم تنتج إلاّ فقهاً مشوهاً أو حالة مشوهة للإسلام والمسلمين , فهي إذا أعملت تفكيرها في قضايا الناس فلن يتجاوز باب النكاح وكأن قضية المسلمين في هذا العصر هي زواج «المسيار» وزواج «فرند» والزواج «السياحي» والغريب أن جماعة أهل السنة ظلت تأخذ على بعض فرق أهل الشيعة زواج المتعة ثم تمخض الجبل فلم يتجاوز ذات المربع، وحين واجهها سؤال العصر الحضاري- أي جماعة أهل السنة- لماذا استهدفنا؟ لم يكن ردها إلاّ بذات الصيغة الأعرابية الفجة «أخذوا الأبل فأوسعتهم سباً» على الغرب أن يأخذ ثروات الأمة ويطوِّر في بنيته الحضارية وعلينا أن نفرغ شحنات الغضب على منابر المساجد وإن عظمت وتكاثر غيظها نفرغها بالأحزمة الناسفة والعبوات المتفجرة التي تستهدف المسلم الموالي للغرب ولا تستهدف الغرب ذاته.
والفرق بين السنة والشيعة هو الفرق ذاته بين الأشعرية والمعتزلة من حيث تعطيل العقل أو تفعيل قدراته وهو ذاته الذي نلمسه في البعد الحضاري المعاصر ،«فحزب الله» في لبنان حين أعلن عن إنتاج طائرة بدون طيار تجوب أجواء فلسطين المحتلة في رحلة استطلاعية , وجدنا جماعة أهل السنة تعلن عن رسالة دكتوراه في مسألة جواز أو تحريم زواج الانس بالجان , وهي لا تحسن إلا التدمير وتنمية العداوات وتغذية الحروب لما يخدم أعداء المسلمين لا المسلمين كما يوحي الحال في العدوان على اليمن في ظل الصمت المريب لها .
وعوداً على بدء .. كموضع أساس لنا نقول إن جماعة أهل السنة حين عطَّلت قدراتها العقلية غاب عنها أن الإسلام مدني بطبعه وفطرته وأنه وضع حداً موضوعياً فاصلاً بين القروية والمدنية وأن وثيقة المؤاخاة بين المسلمين في المدينة المنورة كانت بمثابة أول دستور ينظم الحياة المدنية في التاريخ وأن روح المساواة يمكننا استنباطها من حركة التاريخ، فأبوبكر في أول خطاب له يؤسس للتعدد والمعارضة حين قال: لقد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني، وتلك هي العلاقة الجدلية بين السلطة والمعارضة، وعمر يقف على المنبر قائلاً للناس: اسمعوا وأطيعوا، فيقوم له سلمان الفارسي قائلاً له: لا سمع ولا طاعة، كيف لك أن تستأثر لنفسك بثوبين وتهب الناس من ثوب واحد.. عدالة اجتماعية ومساواة وعدل.. والإمام علي- كرَّم الله وجهه- يقف على قدم المساواة أمام القاضي شريح وهو أمير المؤمنين وخصمه يهودي مثل ذلك- وغيره كثر مبثوث في كتب الأخبار والسير والتاريخ- هو مظاهر وقيم الدولة المدنية الحديثة التي فلسفها الفكر الإنساني عبر مسار تطوره حتى وصل إلى مظهرها الحديث، أما المثلية فهي مظهر أخلاقي تنبذه الفطرة السليمة وقد ضبطه النص الشرعي ولا معنى للقول به أو الخوض فيه ،فقيمة الإسلام الإضافية تكمن في اشتغاله على البعد الأخلاقي وضبط معياريته بالنص المقدس ،فبعض الأديان الأخرى التي كان اشتغالها على البعد الروحي فقط شاعت في مجتمعاتها المظاهر الأخلاقية غير السوية وغيرها من السلوكيات الشاذة التي تتنافى مع الفطرة وطبيعة الإنسان العربي على وجه الخصوص.
ومن خلال هذا السرد المقتضب نكون قد وصلنا إلى يقين أن الذين يقولون بالتضاد بين الإسلام والدولة المدنية الحديثة إنما يحاولون التشبث بالهالات والقداسات التي صادفت هوى في أنفسهم ولم تكن من الإسلام في شيء، مثل تحريم نقد الحاكم أو العالم الديني من حيث تسفيه أو تفنيد الفعل أو الرأي، وبالعودة إلى صفوة العلماء والمفكرين المسلمين كأبي حنيفة والشافعي والإمام زيد وغيرهم لا نجد إلا روحاً عالية صفاءً واشتغالاً معرفياً دون تعصب لرأي ودون هالة أو قداسة، فالقضية لديهم أن الرأي يحتمل الصواب والخطأ والعالم يظل بشراً ولا قداسة له ولحمه غير مسموم، فالكهنوتية التي تسللت إلى فراغاتنا الحضارية والثقافية عبر حقب التاريخ وفجواته ليست من الدين في شيء والذين يدّعونها اليوم ليسوا من الإسلام في شيء ولكنهم يبحثون عن عرضٍ من الدنيا زائل (بهرجة وسلطان وقداسة) وقد رأينا كيف تناقضت مواقف بعض الجماعات من موضوع الإساءة للرسول عليه الصلاة والسلام بين الأمس واليوم .
فالقضية الدينية وفكرتها لا تكاد تتجاوز عتبة الذاتية وظلالها القاتمة وفي مقابلها نجد الانبهار بالنمط الغربي وهو ذلك النمط الذي يتقبل الفكرة في كلياتها ولا يعمل على تحريك وظائفه العقلية في التجزئة والتحليل والمقارنة ونقل التجارب لا يعني مطلقاً التقدم والعصرنة والتحديث، فالقضية المدنية قضية معقدة ولا يمكنها أن تتحقق بمنأى عن العوامل الجوهرية المساندة وبمنأى عن المعوقات الموضوعية وخصوصية المجتمعات، لذلك فالقول بالدولة المدنية كشعار فضفاض تفاعلاً مع المرحلة السياسية لا يعني مطلقاً قدرتنا على التأسيس لها، ومن هذا المنطلق يتوجب على كل القوى إدارة الندوات وحلقات النقاش وتفعيل دور الأوراق البحثية بالاستعانة بالكوادر العلمية والبحثية حتى نتمكن من صياغة مشروع سياسي ناهض يكون هو العلامة الأبرز في تجليات المرحلة القادمة.
والاشتغال الثقافي على ملامح المرحلة القادمة ضرورة جوهرية وأية قوة وطنية أو سياسية ترغب في البقاء في معادلة المرحلة لا بد لها من مشروع ويتوجَّب عليها الاشتغال عليه بما يكفل له النفاذ إلى وجدان ووعي الجماهير، فالضرورة الاجتماعية الجماهيرية هي التي ترسم نفسها على معالم المرحلة ولن تستطيع فعل ذلك إلا بالوعي وبالالتفاف الجماهيري حول مشروع حضاري واضح الأبعاد والرؤى بعيداً عن المزايدات والشعارات الزائفة.
ولعل طبيعة المرحلة وإفرازاتها تضع القوى السياسية الوطنية أمام قضية وجود، ووجودها لا يتحقق إلاّ من خلال قدرتها التفاعلية وقدرتها الديناميكية في التجدد والتحديث والاشتغال الثقافي المستند على مشروع حضاري تكون المدنية ومظاهرها أبرز تجلياته .
فاليمن اليوم أمام منعطف تاريخي مهم في تحقيق وجوده وقدراته وفاعليته أمام القوى التي ترى في تفكيك منظومته وجوداً حيوياً وفاعلاً لها كالسعودية وبعض دول الإقليم ، ومواجهة مثل تلك التحديات دون مشروع واضح الأهداف والمعالم والأبعاد لن يجدي , ذلك أن مهمة اليمن – بالنظر إلى تبدل حركة التوازن الذي فرضه الواقع العسكري – الآنية والمستقبلية لا بد أن تسير في خطين متآزرين هما خط التفكيك النظري والثقافي وخط البناء وتوسيع دائرة الوعي والالتفاف الجماهيري بالطرق والوسائل الفنية الحديثة، فالفنون والآداب حياة مكرّسة قادرة على فتح عوالم المستقبل في الوجدان الجمعي وقادرة على صناعة موقف جمعي ، فبقاء فاعلية اليمن يظل رهن قدرته على اقتناص اللحظة التاريخية للتحول والتحديث والانتقال، كما أن الماضي الذي شاعت في مكوناته التنظيمية لن يكون إلا فناءً مؤجلاً إذا استمرت في هذا المفترق التاريخي الذي نمر به.