قراءة في خطاب الهجرة النبوية لسيد الثورة
"شعوب الأنظمة التطبيعية أولى بالسلام الذي تبرر به هذه الأنظمة علاقاتها مع الكيان الصهيوني المجرم".
أطلق سيد الثورة بضع رصاصات سديدة وصائبة في نحر منطق ما يسمى التطبيع وذرائع المهرولين إليه، ولم يبد كثير دهشة من سفور الصهيونية للوضوح من خلف عقال غلمان الأسرة المالكة الإماراتية مؤخراً.
اعتبر سيد الثورة ذلك بمثابة انتقال من العتمة إلى الضوء للعلاقة القائمة أصلاً بين الإمارات والكيان الصهيوني، الأمر الذي يدعو للتفاؤل، بحسب تعبيره، فالتمايز بين المؤمنين الصادقين مع أمتهم والمتمسكين بقضاياها المركزية الكبرى من جهة، والسائرين في فلك الولاء لأمريكا والكيان الصهيوني من جهة مقابلة، هو حدث إيجابي بالعموم.
خطاب سيد الثورة في رأس السنة الهجرية أمس الأول، حال خطاباته جميعها، لا يخلو من الجديد واللافت على مستوى استخلاصاته لدلالات المناسبة موضوع الحديث وتجلية أبعادها بما يضع المنصت "المثقف" -قبل غيره- أمام أفق تاريخي إيماني دلالي يتكشف لناظريه للمرة الأولى بهذه الرحابة والسعة والسطوع.
الهجرة ليست انتقالاً بين مكانين في قراءة سيد الثورة لها... قراءة تنتظمها المنهجية القرآنية وتدعمها الآيات.
الهجرة هي انتقال شرف حمل الرسالة السماوية المحمدية من غير الجديرين بها إلى الأجدر بهذا الشرف.
فــ عِلية الإقطاع القرشي الذين ناصبوا الرسالة المحمدية العداء منذ وهلة ظهورها الأولى، وساموا المؤمنين بها سوء العذاب، برهنوا على عدم جدارتهم بعظيم شرف وخير وسمو كان سينالهم من حملها كنواة اجتماعية إيمانية أولى حاضنة لها.
ترتيباً على هذا الإخفاق الإقطاعي القرشي الذريع الذي تنامى لدرجة استقرار قرار القوم على تصفية نبي الرحمة جسدياً، تنزل وحي الله على رسوله فكانت الهجرة تجلياً لمكر سماوي دمغ مكر ماكري قريش وسلبهم شرف حمل الدعوة ليضعه على كاهل جمهرة اليمانين السابقين بالإيمان من الأوس والخزرج الذين تبوؤوا يثرب بادئ ذي بدء ترقباً لظهور بشارة أحمد النبي العربي قبل حقبة من ميلاده.
لم تكن الهجرة من مكة نزول الوحي إلى يثرب الجمهرة النووية المؤمنة الأولى، خبط عشواء، بل كانت وحياً ومكراً إلهياً وضع الله من خلاله رسالته، حيث سبق علمه أنه المجتمع الأكثر جهوزية وظمأً لتظهير خيريتها وذود الشرور عن نبيها وعنها حتى يتمها الله ويقيم بها حجته على العرب ثم على الناس كافة.
إنها هجرة من مضارب المعشر الأشد كفراً ونفاقاً وغلظةً وصلفاً وطغياناً، إلى المعشر الأرق قلوباً وأفئدةً واختصاصاً بالحكمة والإيمان في مدينةٍ أضحت منورة باعتناق مهاجري الدعوة وأنصارها على تربتها كجمهرة نووية إيمانية قبل سطوع شموسها على كل المعمورة وشعوبها.
يقول سيد الثورة إن هذا الاختصاص والأهلية ليسا حصراً على قوم زمن الهجرة، وإنما مفتوحان على نهوض اليمانين اليوم باستحقاقاته وشروط الحظوة به، وهو ما يشهد به العالم في الراهن لليمانين في صورة سفور عدائه لهم في الأغلب الأعم، وفي صورة استبشار بهذه الوثبة اليمانية لدى قلة من أحرار العالم ومستضعفيه... وثبة يمانية أنصارية أعاد الله بها الرسالة المحمدية إلى مسرح الفاعلية وقرآنه إلى جادة جوهره المقارع للطواغيت والمستكبرين المقاتل في سبيل المستضعفين في الأرض الذين وصلهم الله بسبيله جهاداً وتقريباً للأنفس والأموال على مذبح خلاصهم من عالم ظالمٍ أهله.
ويلفت سيد الثورة أنظار شعب الحكمة والإيمان إلى الأفق البعيد لمكنونات القوة والتمكين الإلهي واستعمار الأرض بناموس الله الذي تتوافر عليه الرسالة المحمدية وينال الناهضين بها صدقاً وتضحية وإيثاراً كسلفهم من أوس وخزرج وصفهم الله بـ"الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أُوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
في قراءة قوله "من قبلهم" يشير السيد عبدالملك إلى رواية تاريخية تتحدث عن أن تبعاً وجه بعض قومه إلى يثرب ترقباً لظهور النبي العربي حتى يحوزوا شرف السبق في الإيمان به ونصرته. وهي رواية راجحة بشواهد الحال لاحقاً، فالأنصار من أوس وخزرج كان لهم ذلك، وأفلحوا بشهادة العلي القدير في مسعاهم الإيماني المديد تتويجاً بمبايعة رسول الله على الذود عنه وعن رسالته السماوية. لم يكن اليمانون من زمرة من قالوا لنبيهم "اذهب أنت وربك فقاتلا..."، ولا تهيبوا وتضعضع إيمانهم عند الكريهة فقالوا "إنا لمدركون"، بل كان قولهم دائماً "خض بنا البحر نخضه معك". واليوم هم القوم الأجلى نصرة والتفافاً حول نبيهم وآله الأطهار من أعلام الهدى في وجه أفظع المكاره يجودون بالأنفس والأموال في ذروة العسرة والشح وسوء الحال وكفاف الأيدي بفعل الحصار والعدوان الكونيين.
إن شعب الأنصار اليوم يحمل موثق الله لنبيه بأن لا تبديل ولا تحويل عن المسار المحمدي، وهو موثق الله للذكر بالحافظين له، وموثق الذكر لفلسطين السليبة بوعد آخرة يتبر خلاله أولو البأس باطل طاغوت الصهيانة والمستكبرين تتبيراً دخولاً ظافراً إلى قدس أقداس النبوة بعد كعبة مكة المشرفة.
يدحض سيد الثورة بزكاء خطابه القرآني دون مباشرة، أقاويل مطابخ تهويد اليمن من خلال تسويق روايات صهيونية عن حضارة يمنية "يهودية وأقيال يهود".
بذلك تتجلى حجية المسيرة القرآنية وظهور منطقها السليم على منطق كل روايات التهويد المنافية لحقيقة الصراع وطبيعته.. تلك الروايات التي تهدف لتمكين الطاغوت الصهيوأمريكي من تراب اليمن ورقاب شعبه الحر الكريم عبر التأصيل لحق وجود قديم مزعوم له تاريخياً في استمرار لأنشطة كتائب الاستشراق الاستعماري الغربي الوسيط التي شقت طريقاً ممهداً لجنازير الاحتلال العسكري الأوروبي في الشرق العربي والإسلامي، فحول وجهة الأمة لتولي وجهها شطره كمركز مقدس تدور حوله في السراء والضراء، وتلتزم بمصالحه كناموس سماوي لا تبديل لكلماته حتى اللحظة الراهنة.
يتوج سيد الثورة حديثه بالشد على أيدي المقاومة العراقية وعملياتها العسكرية المتصاعدة ضد الاحتلال الأمريكي، معتبراً هذا المسار هو الوحيد الناجع لتحرير تراب العراق من المحتل، لا المسار التفاوضي مع واشنطن الذي ينتهجه كثيرون في إضاعة واضحة للوقت والجهد.
ويدين السيد القائد عبدالملك الحوثي احتلال أمريكا لبعض أراضي الجمهورية العربية السورية ونهب نفطها بصورة فاضحة لا تستفز المجتمع الدولي المنافق، ويؤكد السيد تضامنه الكامل مع سوريا الحبيبة شعباً وقيادةً، ومع لبنان شعباً ومقاومة، في التآمر الخارجي الذي يستهدفهما بالتركيع والتجويع والدمار في شتى المستويات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والسياسية.
أما فلسطين وقضيتها ومقاومتها البطلة فهي متن حديث سيد الثورة في كل خطاباته بدءاً وختاماً، وهو إذ يرى في موقف الإمارات عداءً سافرا لفلسطين السليبة، فإنه لا يرى اختلافاً بينها وبين السعودية التي تزج بشخصيات فلسطينية مقاومة في سجونها مرضاة للكيان الصهيوني، كأنظمة مجبولة على معاداة كل من يعادي "إسرائيل" ويرفض الخنوع للهيمنة الأمريكية.
هكذا تكلم سيد الثورة في خطاب الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها وآله الأطهار أفضل الصلاة والسلام.
*نقلا عن لا ميديا