“مداريات حزينة” تكشف هيمنة المستعمر الأوروبي – الأمريكي على الشعوب المغلوبة
عرض/ سعيد شجاع الدين
في كتابه “مداريات حزينة” يضع الكاتب أمامنا صورة لعالم مقسوم إلى نصفين هما الغرب والشرق أو الشمال والجنوب، اللذان يمثلان طرفي المعادلة في العلاقة الإنسانية التي تشهد على عبثية التعايش المبني على استغلال الإنسان في ” العصر الحجري الحديث” كما يسميه كلود ليفي شتراوس مؤلف كتاب “مداريات حزينة” الذي يضع أمامنا صورة لعالم يمتاز بالتناقض بين قطبي الرفاهية والبؤس”، هذه الصورة التي تشهد مجدداً وكما يرى مؤلف الكتاب – على “عبثية العلاقات التي يقبل الإنسان إقامتها مع العالم أو بالأحرى المفروضة عليه أكثر فأكثر” والفرض هنا هو مؤشر على اختلال العلاقة الإنسانية بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة الجغرافية (المكان).
ولكي نفهم أكثر ما يطرحه الكاتب لابد من الاقتراب منه لنعرف أنه يؤمن بفكرة “التنوع الثقافي” وفي هذا يقول فيصل دراج في مقدمته للنسخة المترجمة إلى العربية من “مداريات حزينة” : “ولعل فكرة التنوع الثقافي هي التي أملت عليه منذ زمن – أي شترواس – أن يتحرر من المركزية الثقافية الأوروبية وأن يذهب إلى ثقافات مغايرة في طريق الانقراض تعامل معها الاستعمار الأوروبي بأدوات القتل والإبادة والاجتثاث بعد أن رأى ولايزال في غير الأوروبي خطيئة ونظيراً للشيطان، في رحلته إلى قبائل “بدائية” في أطراف البرازيل كان شتراوس يعترف أخلاقياً بثقافة غريبة عنه ويعترف علمياً أن لـ” الآخر” وجوده العياني الذي لا يشتق من كليات أيدلوجية جاهزة”.
إن مايهمنها في هذه القراءة هو التأكيد على مكانة مؤلف الكتاب فهو أستاذ جامعي ينتمي إلى بلد له خصوصيته الثقافية، بلد يؤمن بحرية الإنسان وذلك بالنظر إلى خصوصية الثورة الفرنسية على المستوى العالمي، ناهيك عن أن مؤلف الكتاب هو أكاديمي يتعمد المنهج العلمي في قراءته لواقع العالم، أو لـ واقع “المداريات” التي وصفها بـ”الحزينة” حتى أوروبا نفسها ونتيجة “انكار صفة الإنسانية على جزء من البشر” قال الكاتب أنها تسير “نحو العالم المحدود الذي جربته آسيا الجنوبية قبلنا بألف أو الفي عام والذي لن يتسنى الانعتاق منه ربما إلا إذا اتخذنا قرارات هامة، إذ إن هذا الانتقاص المنظم من قيمة الإنسان من قبل الإنسان بنتشر”.
وعليه فإن وصف هذه المداريات بـ”حزينة” ومن خلال صيغة العنوان اللغوية القائمة على التنكير يدلل على إطلاق هذه الصفة أو استنساخ هذه المداريات بسبب الهيمنة الواحدية التي تعمل على إخضاع الآخر، ومن هنا تتجلى لنا مسألة الثنائية التي اشتغل عليها الكاتب في استدعاء المتناقضات، فهو على سبيل المثال يضع “المجتمعات الباردة” في مقابل “المجتمعات التاريخية، ولكل منها وجوده المستقل، فـ”الأولى، التي لا تاريخ لها دون أن تمنع التاريخ من المساس بها بقيت على ما بقيت عليه لأسباب خاصة بها، على عكس الثانية التي تعيش في التاريخ وتُفسَّر به وترى في المعرفة أداة للتطور والاستقرار”.
والصورتان للمجتمعات تقدمان نموذجاً للحضور الإنسان في ارتباطاته المكانية ونعني بها البيئة الطبيعية بكل ما تمتاز به من إمكانات لو أحسن الإنسان استخدامها لساعدت في إثراء قيم التعايش التي تحقق مفهوم العدالة والتقدم، أما الاشتراط الثاني فهو البعد الثقافي الذي تتأكد منه “العلاقة المتلازمة بين التقدم والاستغلال، التي تضع مجموعة من المجتمع في خدمة مجموعة أخرى كما لو كان التقدم يستدعي لزوماً علاقات السيطرة والإخضاع”، أي أننا إزاء إنسان هو الذي يحدد شكل العلاقة على مختلف الاتجاهات فما يؤمن به وما يخلّفه من أثر مادي استند عليه شتراوس في قراءته “الحزينة”.
الشرق المسكين
وصف الشرق بـ”المسكين” يوحي بـمدى الانتهاك الذي تتعرض له خصوصيته التي تشكل وجوده الضارب في أطناب التاريخ، حيث حضوره المتكامل الذي عاشه على مدى مسيرته الإنسانية فكان له حضارته إلى أن أغراه بريق الحضارة الغربية، ولعل وصفه بـ”المسكين” من قبل المؤلف يكشف عن المفارقة بين ماضي الشرق وبين حاضره، وذلك الماضي الذي يشير إلى “العالم القديم”، الذي يعني زمنياً أربعة آلاف عام أو خمسة آلاف عام من التاريخ.. عندما كان العالم القديم فتياً يرسم الخطوط الكبرى للعالم الجديد.. أما اليوم فإن المدينة الشرقية أسيرة لأصحاب المال سواء من السكان الأصليين أو رجال الأعمال الغربيين مثل مدينة “كراتشي” التي عدها المؤلف “مخلوق اصطناعي للاستعمار في الصحراء”، لـيتضح أثر الدمار المنظم، إذ الزيادة في عدد السكان تكشف عن استغلال أصحاب الثروة للأغلبية من السكان الغارقة في البؤس، فتخطيطها يكشف عن الهاجس الاقتصادي بالنظر إلى إمكانات تتيحها المدينة لبناء القصور أو حتى تعقيم المدينة ” كلما تغيرت العينة الإنسانية التي سكنتها لأشهر وأسابيع وكل ما في المدينة – عموماً يبعث على الحيرة، ففي مكان آخر “وادي الهندوس” تحتفظ بآثار عتيقة في مقابل أحياء عمالية بمساكن متماثلة وورشات صناعية لطحن الحبوب،..
يقول المؤلف: “تُذكِّر هذه المجموعة السكنية الكبرى الزائر، بأبهة وعيوب المدينة العصرية الكبيرة، وتستبق الأشكال الأكثر تطوراً للحضارة الغربية، التي تقدم الولايات المتحددة انموذجها لأوروبا نفسها”..
الغرب الذي نجهله
ينقل إلينا صورة أخرى تؤكد على تخلي الأفراد عن هوياتهم، والسعي لتمثل النموذج الغربي.. يقول: “كنت ضيفاً على أستاذ شاب، وكان هناك ابن حميه، الذي يشرف على المأدبة وخادمة وطفل رضيع، وأخيراً زوجته المتحررة من البردة: الصامتة كغزالة نافرة، بينما كان زوجها حتى تؤكد تحررها الحديث العهد، يمطرها بالتعليقات الساخرة التي كانت تؤلمني بقدر ما تؤلمها، حتى أنه أجبرها على إخراج ملابسها الداخلية، باعتباري أثنوغرافيا حتى أستعرضها، ولم يبق عليه إلا تعريتها، لفرط تلهفه على اعطاء ضمانات على تحرره، لهذا الغرب الذي يجهله”..
المناطق الريفية
في الريف تنكشف لنا آثار التحول باتجاه الغرب، أو قل آثر الاستغلال الاقتصادي لفئة الأغلبية القروية من السكان لصالح قوى الاستعمار الغربي.. يقول المؤلف: “وقد يكون المشهد أخاذاً، حتى في المناطق الريفية، فقد كنت أرتحل بمحرك على نهر البنغال، وفي بولبغانا المحفوفة بأشجار الموز والنخيل، المحيطة بمساجد من القاشائي الأبيض، وتبدو كأنها عائمة على سطح الماء، نزلنا في جزيرة صغيرة، للتفرج على سوق ريفي، نبهتنا إليه مئات من الزوارق والمراكب السامبان الراسية ذات الطراز الصيني، وعلى الرغم من عدم وجود آية علامة على مسكن، فقد كانت هناك مدينة حقيقية ليوم وأحد، تزدحم بجمهور استقر على الطين، في أحياء متميزة تختص كل منها بتجارة: كالأرز غير المقشور، والمواشي، والمراكب، وعصي الخيزران، وألواح الخشب، والفخاريات، والمنسوجات والفواكه، وجوز التنبول، وشباك الصيد”..
بين قساوة الطبيعة واستغلال المستعمر الغربي
المؤلف وصف طبيعة الحياة الريفية في تلك المناطق يقول: “إن وداعة هذه البلاد لا مثيل لها.. لتنكشف لنا الحقيقة أو جزء منها، “هذه الوداعة تظل مقلقة في الوقت نفسه، فالمنظر ليس عادياً، والماء فيه أكثر مما ينبغي، والفيضان السنوي يؤدي إلى ظروف معيشة استثنائية، إذ يسبب انهيار الخضار ومصائد الأسماك، فالفيضان يعني الفاقة، وحتى المواشي تهزل وتنفق، لأنها لا تجد ما تقتات به”..
الحال لا يتوقف على قساوة الطبيعة بل إن الإنسان له تدخلاته التي تزيد المشهد قتامة لرؤيتها يكون “من الضروري الدخول إلى القرى، لفهم الوضع المأساوي لهؤلاء السكان، الذين تقربهم الأعراف والمساكن وأسلوب المعيشة من البدائيين أكثر، لكنهم يقيمون أسواقاً بتعقد المجتمعات التجارية ذاتها، فمنذ قرن تقريباً، كانت عظامهم تغطي الأرياف، أولئك النساجون في أكثريتهم، والذين عانوا من المجاعة والموت، نتيجة منع المستعمر لهم من ممارسة حرفتهم حتى يفتح سوقاً لمنسوجات ما نشسترا (مدينة بريطانية) القطنية، وهكذا كل الأرض الصالحة للزراعة اليوم، على الرغم من أنها تظل مغمورة بالمياه نصف السنة، مخصصة لزراعة القنب، الذي يذهب بعد تهيئة أليافه إلى المصانع في نارايانغانج وكلكتا، أو مباشرة إلى أوروبا وأمريكا، بحيث إن هؤلاء الفلاحين الأميين أنصاف العراة يعتمدون بطريقة أو بأخرى ليست أقل تعسفاً، في قوتهم اليومي على تقلبات السوق العالمية”..
من البربرية إلى الانحطاط
اشتغل مؤلف الكتاب -كما نؤكد على هذه الجزئية مراراً- على ثنائية التضاد مثل القديم/ الجديد، وفي هذه الجزئية تكون أمريكا هي مادة الجديد يقول: “عرّف أحد العقول الماكرة أمريكا بأنها بلاد اجتازت البربرية إلى الانحطاط دون أن تعرف الحضارة.. إلا أننا نستطيع بقدر أكبر من الصواب ، تطبيق هذا القول على مدن العالم الجديد فهي تنتقل من ريعان الصبا إلى الهرم دون أن تمر بالأقدمية”.
فـ” في مدن العالم الجديد سواء كانت نيويورك ، شيكاغو، أم ساو باولو، .. ليس ما يدهشني هو انعدام الآثار ، لأن ذلك هو عنصر من معنى هذه المدن “ونقل الينا المؤلف مشاعر السائحين الأوروبيين في المدن الأمريكية فهم يتضايقون من عدم وجود كاتدرائية.. من القرن الثالث عشر”، لكن هذا الشعور للأوروبي السائح، يُظهر لنا المؤلف نقبضه بقوله: “أنا مسرور لتكيفي مع منظومة بدون بعد زمني لتفسير شكل مختلف من الحضارة ، إذ ما دامت هذه المدن، تؤسس على هذه الجد كيانها ومعناها ، فأنا أجد صعوبة في أن أغفر لها عدم بقائها كذلك ، لأن مرور القرون على المدن الأوروبية يشكل ارتقاءً بينما يعتبر مرور السنين على المدن الأمريكية انحطاطاً ليس لأنها أنشئت منذ عهد قريب فقط، بل لأنها بُنيت لتتجدد بالسرعة ذاتها التي بنيت بها، أي بصورة سيئة”.