في هذا العالم المكتظ بالتناقضات والأزمات والحروب والطغيان الذي لا يكترث فيه الكثير بالأصالة لأن الأصالة باعتقادهم أوصلت لأوضاع سيئة، في حين أنا نرى الوضع في العالم كله ذاته، الملوث بالنفط، المقموع بالسياسات الأممية والمشحون بالعنصريات، المتلاشي في الفضاء الرقمي، الغارق في الإغراءات والأوبئة والمثليات والارتزاقات القلمية والقيمية. فوجدنا أقلاما داكنة غارقة في كل ذلك، وبأنماط غامضة ومبهمة فيها حدة وخسة وحطة، انعكاسا لذلك الواقع المشوه.
ووجدنا بالمقابل أقلاما واضحة صادقة تعمل على مقارعة الطغيان وتغيير الباطل، منهم أحمد درهم المؤيد، شاعر يمني من صعدة، من شعراء أنصار الله المناهضين للعدوان، ومن المنطلقين في صفوف المسيرة القرآنية منذ حروبها الأولى. يكتب الشعر بالفصحى، ويتميز بأبعاده القرآنية والوطنية، ويحمل فكر أهل البيت، وأيضا يتميز شعره بصبغته الإنشادية. وله قصائد عامية جميلة، وقد اخترت هذا النص "منهج المجد" وسأكتب شيئا حول العنوان والصدر، لأني وجدتها ضمن محطات مهمة في مسار درهم، وقد أبين ملامح تلخص تجربته.
"منهجُ المجد"، المنهج كما هو معروف هو الطريق الواضح، وعصرياً يستخدم لفظ المنهج للعناوين التربوية والعلمية البحثية. والمجد هو الشرف والسخاء، وبالتالي فإن "منهج المجد" عنوان النص معناه العام طريق الشرف، لكن المعنى الشعري الذي يريده الشاعر هو السبل المؤدية إلى النصر، وبالتالي تحقيق أهداف الثورة. وبالنظر إلى العنوان سنرى أن منهج المجد وسيلة وغاية معا؛ لأن التيار الذي ينتمي إليه الشاعر تيار مبني على ركنين أساسيين هما القرآن كمنهج، وأخلاق أهل البيت كرديف مجمل للمجد، وبهما يكتمل المفهوم من الدين كضمان للغاية، وبهما تكمن الوسيلة لكونه أصل دعاء العباد في القرآن بالهداية، لأنك إذا هديت الصراط ضمنت الغاية بلا شك.
"وحّدتنا أشلاؤنا والدماءُ".
مفارقة شعرية جميلة. ثنائية توحد الأشلاء. وهي أيضاً قانون كوني في الحياة، فكلما عمد الظالم إلى إيقاف أهل الحق وإزاحتهم بالقتل والتفريق ازداد تلاحمهم وعزمهم على مواجهته. وقد أورد كلمة "والدماء" بعد أن قال "أشلاؤنا"، لأن الأشلاء مفهومها أعم وتضم معاني كثيرة غير مادية ومادية، والدماء المقصود بها الضحايا، لهذا قال في الشطر الثاني:
"ومضى الشعب واستقام اللواء".
وكلما ازدادت آثار الظلم والعدوان ازدادت مساحة الثورة والغضب على المستوى الشعبي. ونتيجة لهذا المضي الشعبي تشكلت منه ألوية شعبية لمقاومة الظلم، لذلك قال بعد ذلك: "واستقام اللواء".
سنلاحظ من قراءتنا البيت الأول فقط دقة الشاعر في اختيار اللبنات اللفظية المناسبة، وكذلك الهندسة البنائية للفكرة بشعرية عالية ودرامية مشوقة. ونلمس في هذه البنية نسق المنظومة التربوية في أدبيات أنصار الله، وأنها مرتكزة في هذه الجزئية على مبدأ اليقين بتحقق النصر الإلهي طالما كان مضي الشعب في سبيل العدالة.
"وتلاقت راياتُنا والْتقينا". والملاحظ أن تلاقي الرايات يعني منطقيا تلاقي الثوار، لكننا التقينا وكان التقاؤنا نتيجة لتلاقي الولاء والانتماء.
"مُذ تلاقى الولاءُ والانتماءُ"، وهما مبدآن ومبدأ وكل المبادئ، مبدأ واحد ضمن منظومة المبادئ الموحدة.
"نمتطي صهوةَ المعالي ركاباً". ولأن المبادئ وحدة متوحدة فهي كلها مبدأ، وكان للمعالي صهوة واحدة فقط، يمتطيها الجميع... الدقة في الصياغة الشعرية لدى الشاعر درهم تكاد تكون أسلوباً مهماً، ولهذا وجدنا أفكارا متسلسلة في النص وترابطا عجيبا بين البيت والبيت الذي يليه.
ولأن صهوة مجموع المعالي واحدة، والصهوة هذه بمنطق الأجساد لا يمكن للجميع امتطاؤها إلا في حالة توحدهم، فإن هذا التوحد لا يتأتى ألا على وجه روحي، هذا الوجه الروحي لا يكون إلا من خلال عقل القائد. إذن فلدينا بنية استطعنا من خلال تفكيكها كشف نسق ثوري وسياسي. في أدبيات الثورة الأنصارية، لكي نعرف مدى الحالة المعرفية التي وصل إليها هذا الشاعر القرآني.
"ولنا المجدُ منهجٌ وارتقاءُ". ولكي نزداد اندهاشا من قدرته على ربط الأفكار وسلسلتها في إطار إيصال منهجية وأدبيات المشروع بأسلوب شعري عميق يبدو للوهلة الأولى إنشاديا ومباشراً، لكن له أبعاد مهمة جداً، فحين انتهينا إلى حلقة أو بنية عرفنا البعد السياسي، وهو بعمق لا مناص بدون تأمله من الغرق في لجج جهل المرور العابر من عنده. أدخلنا في البيت التالي مع بعد آخر مهم، وما وصلنا إليه إلا بانضوائنا تحت لواء قائد مؤمن أنصاري عظيم من أهل البيت، حزنا معه وبه المجد، وصار المجد لنا منهجاً وفي الوقت ذاته ارتقاء. وهذا مصداق قولي، أنا كاتب هذا المقال، في بدايته إنه وسيلة وغاية معا. منهج بكل أدبياته القرآنية والأخلاقية، وارتقاء بما يحمل من دلالات معبرة عن الاقتراب من رضى الله ونيل كرامات دنيوية، ودلالات تصف حب التقرب إلى الله بطلب الشهادة ونيل كرامات أخروية.
"القرابينُ والدموعُ انتصارُ". لاحظ التسلسل الفكري والهندسة المعمارية الشعرية البديعة. إننا إزاء شاعرية صافية الذهن.. وتنزلات نصية تستمد وحيها من كتاب مبين. وفي البيت السابق وجدنا بنى معرفية عالية التقنية، وقدرة بحسب الأهمية على منح المعلومة التي يطلبها السياق؛ القرابين والدموع. القرابين وصف مضغوط سهل الفتح، أو شعرية مكثفة، في حالة قرئت بإحساس مرهف، لمعارك كبيرة وملاحم عظيمة خاضها جند الله في سبيل الله ضد الطغيان. وللدموع هنا أيضا دلالات شاسعة المعاني لمشاهد الصلاة والتضرعات والدعاء الموازية لتلك المعارك التي ارتقت فيها القرابين، أو لتلك القرابين التي ارتقت في معارك العزة والكرامة. دموع العابدين الراجين عفوه ونصره، دموع الآباء والأمهات، دموع الثكالى واليتامى والمساكين المنكوبين والجرحى والمصابين... جراء العدوان وآثاره على اليمن، وعلى شعبه المؤمن، وأراضيه وأعراضه المقدسة قداسة إيمانه.
"وهنا الجرحُ نزفهُ كبرياءُ". بعد الانتصار بالقرابين والصلوات، يأتي دور الجرحى، ليثمر نزفهم كبرياء. وقد جمع الجرحى بالجرح -برأيي- بدلاً من قولنا أفرد الجرحى بالجرح في أسلوب بليغ لبيان وحدة الدم والألم وأنه موضع نزف واحد في الأمة تصاب به وتألم به وتثأر له به، فهو كبرياؤها المجروح بتجاوز الظالمين، ويجب أن تعالجه بمضيها في هزيمة العدوان وتطهير البلاد من أياديه. وفي قوله "وهنا الجرح” كأني بالشاعر يشير إلى أعماقه، ويتنهد.
منهجُ المجد
وحّدتنا أشلاؤنا والدماءُ
ومضى الشعبُ واستقامَ اللواءُ
وتلاقت راياتُنا والْتقينا
مُذ تلاقى الولاءُ والانتماءُ
نمتطي صهوةَ المعالي ركاباٌ
ولنا المجدُ منهجٌ وارتقاءُ
القرابينُ والدموعُ انتصارٌ
وهنا الجرحُ نزفهُ كبرياءُ
إنهُ اللهُ مَن لهُ الأمرُ حقاً
يفعلُ اللهُ إن قضى ما يشاءُ
اعتصمنا بحبله ومضينا
وهُدى اللهِ للقلوبِ شفاءُ
لا سوى اللهُ نتخذهُ وكيلا
وولياً ما خابَ فيهِ الرجاءُ
قاهرٌ قادرٌعلى كل شيء
وله الكونُ أرضهُ والسماءُ
يا رجالَ الثباتِ أنتمْ جبالٌ
تتلاشى أمامَها الصحراءُ
انفروا اليومَ للجهاد خفافاً
وثقالاً يا أيها الأوفياءُ
واستعينوا بالله لا تستكينوا
وأعيدوا الغزاة َمن حيثُ جاؤوا
سبحوا «واذكروهُ ذكراً كثيراً»
واستقيموا حتى يهونَ البلاءُ
«أم حسبتم» أن تدخلوها ولمَّا
تصبروا فهو والجهاد ُ سواءُ
بادروا بالإنفاق حتی تنالوا
البرَّ فالبخلُ ذِلةٌ ُوشقاءُ
ولنا في الجهادِ لا شكَّ فضلٌ
وحياة ورحمةٌ وعطاءُ
وعلى الكافرين نحن أشداءٌ
غلاظٌ ُوبيننا رحماءُ
ألف لبيكِ يا دموعَ الثكالى
أنت واللهِ للطغاة فناءُ
كربلاء كانت نتاج انحراف
وبصرواح كانتِ الأصداءُ
وأولوا البأس في ركابِ حسينٍ
وعلى العهدِ لم تزل صنعاءُ.
* نقلا عن : لا ميديا