الكتابة ليست محكومة برغبة أو منقادة لمزاج، الكتابة قيمة وجدانية، وقضية إنسانية، وحقيقة رسالية، ومبدأ إيماني، بالنسبة لنوعية خاصة من صفوة الناس كتاباً ومثقفين وأدباء، لأنهم لم ينطلقوا في ممارستهم لها من منطلق الترف الفكري، ولا من باب الجدل الفارغ، ولم تقم كذلك كل نتاجاتهم مستندةً لخيالٍ مجرد، أو لاهثةً وراء وهمٍ عابر، بل كان الواقع يملي عليهم فيكتبون، وكانت الحياة تتحرك من حولهم بكل ما فيها فيسجلون شهاداتهم على الواقع كله.
ومثل هؤلاء الكتاب لا يصابون بالأمراض المزمنة التي يعاني منها الكثيرون ممن اكتفوا من حياتهم بألقاب حوتها الشهادات العليا، ومكانة فرضتها العادات والأعراف الثقافية، وإنما يظلون أبداً الواقفين بمحضر القيام بدورهم كشهداء لله، بالمستوى الذي يمنحهم القوة المطلوبة لتحقيق الثبات، والعزيمة الكافية لأجل الاستمرارية في السير على ما هم فيه، وليسوا كذلك من هواة المناكفات والمشاحنات، ولا من أصحاب المداهنات، ولا يجيدون التملق، ولا يتقنون أسلوب التودد والمجاملات، فإن قالوا فقولهم الحق، وإن نقدوا فمذهبهم الصدق، وإن ثاروا فليس فيهم مكان للشر، ولا يوجد في بنيتهم وروحيتهم وفكرهم شيء من الزهو والبطر، وهم لا يسكنون إلى خنوع في ظل وجود لظالم، ولا يتصالحون مع الظلم وإن صدر من أنفسهم، ولا يتعايشون مع الفساد مهما صغر في عيون سواهم، وقبل به غيرهم، لأن مرادهم البناء وغايتهم الإصلاح التام والشامل.
إن هذه النوعية قليلةٌ في كل زمان ومكان، لكنها الباقية الخالدة، الموجهة والمربية لكل جيل حتى قيام الساعة.
وقد يحاول البعض النيل من هذه الصفوة، ويعمل على بث الشكوك حولها، كأنْ يقول: إن هؤلاء مجرد مرضى وغير مرتاحين لسيادة الحق، واضمحلال الباطل، حالهم حال مَن قالوا لنبي لهم: «أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا». وهذا لا بد لمن يسمعه أن يبحث في طبيعة الشخصية والمكانة لأولئك المتهمين بهذه التهمة، فإذا وجد لهم علاقة بالملأ من أصحاب النفوذ والمال والجاه فهم بالطبع امتداد لأصحاب موسى، ونسخة طبق الأصل من كفار قريش، أما إذا وجدهم محاطين بسلاسل الفقر، ومضرجين بدماءٍ أسالتها سياط الفاقة، النازلة على جميع نواحي أجسادهم دون رحمة، في ظلمات زنازين التجاهل لوضعهم والتنكر لحاجاتهم ومتطلبات حياتهم، فهم والله امتدادٌ لأصدق لسان، وأرواحهم روح أبي ذر، فلا تجعل من فكرك موضعاً لربذة جديدة استحدثها عثمان لينفيه من جديد.
* نقلا عن : لا ميديا