انتهكت تركيا سيادة العراق 22740 مرة منذ عام 2018، تقدّمت بغداد بـ296 شكوى وما زالت تلك الانتهاكات مستمرة.
..
في الشكوى التي تقدّمت بها وزارة الخارجية العراقية إلى مجلس الأمن الدولي ضد تركيا، محمّلة إياها مسؤولية قصف المنتجع السياحي في قضاء زاخو شماليّ العراق في 20 تموز/يوليو اتهمت بغداد، وعلى لسان وزير خارجيتها فؤاد حسين، تركيا بانتهاك سيادة العراق 22740 مرة منذ 2018، فيما تقدّمت بغداد بـ296 شكوى ضد هذه الانتهاكات وما زالت مستمرة.
فإذا كان عدد الانتهاكات منذ 2018 فقط بهذا القدر، فالعدد الإجمالي للانتهاكات منذ نحو 40 عاماً لا يعدّ ولا يحصى. فقد وقّعت أنقرة مع بغداد عام 1984 اتفاقية تسمح للجيش التركي بالتوغل 5 كيلومترات في الأراضي العراقية لملاحقة مسلحي حزب العمال الكردستاني، في مقابل وقف الدعم التركي للبشمركة الكردية العراقية الموالية لمسعود البارزاني.
ومع أن هذه الاتفاقية كانت لمدة عام، ولم يجدّدها الطرف العراقي، فقد استمر الجيش التركي في التوغل في الأراضي العراقية، إذ وصل عدد هذه التوغلات إلى أكثر من 30 حتى نهاية العام الماضي، ومن دون أن تبدي بغداد أي ردود فعل جادة (باستثناء بيانات الاستنكار) على العمليات العسكرية البرية والجوية التركية، بعدما قصف الطيران التركي مواقع حزب العمال الكردستاني شمالي العراق مئات المرات، وما زال يفعل ذلك كل يوم تقريباً.
ولم تكتفِ تركيا بكل ذلك، فأقامت علاقات استراتيجية مع مسعود البارزاني، الذي قاتل مسلحوه إلى جانب الجيش التركي مسلحي حزب العمال الكردستاني، بل قاتلوا أيضاً المسلحين الموالين للاتحاد الوطني الكردستاني، الذي كان يتزعمه الرئيس الراحل جلال طالباني.
وساعد هذا التعاون والتحالف الإستراتيجي الجيش التركي في إقامة "5 قواعد رئيسة تتبع لها 100 نقطة عسكرية في الشمال العراقي"، وهو ما ذكره رئيس الأركان، عبد الأمير يار الله في حديثه أمام البرلمان عن قصف تركيا منتجع زاخو، فيما وصف وزير الخارجية، فؤاد حسين ما جرى بالاحتلال.
فالعراق الذي لم يتحدّث قبل الآن، وعلى لسان أيٍ من مسؤوليه، عن هذا الانتشار العسكري التركي على أراضيه فاجأ الجميع بالضجة السياسية والإعلامية التي أثارها ضد قصف منتجع زاخو، بعد أن حمّل الجيش التركي مسؤولية القصف، الذي جاء بعد يوم من قمة طهران، وحاول المسلحون في ريف إدلب بعدها بيوم واحد أيضاً استهداف قاعدة حميميم الروسية بالمسيّرات.
والمستغرب في الضجة أن كل الأطراف العراقية، بما فيها تلك المحسوبة على تركيا كرئيس البرلمان الحلبوسي، ووزير الخارجية فؤاد حسين المحسوب على البارزاني، حاله حال وزير الخارجية السابق هوشيار زيباري، اتخذوا موقفاً موحّداً من أنقرة التي لا يخفى على أحد دورها وحساباتها المختلفة في العراق، لموازنة الدور الإيراني هناك، تارة لأسباب تاريخية، وأخرى لأسباب مصلحية، ومرات لأسبات طائفية. وغالباً ما يكون ذلك بتشجيع من عواصم الخليج، كما كانت الحال في سوريا.
الموقف العراقي الموحّد ضد أنقرة أثار عدداً من التساؤلات بسبب توقيته الذي زامن التحرّكات الإقليمية نحو تطبيع العلاقات بطهران، وانتشار معلومات تتحدّث عن لقاء مرتقب لوزيري الخارجية السعودي والإيراني في بغداد قريباً، ويفسر ذلك الاتصالات الهاتفية التي أجراها وزيرا الخارجية الكويتي، أحمد ناصر الصباح، والإماراتي، عبدالله بن زايد آل نهيان مع الوزير الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ليعبّرا له عن رغبة بلديها في فتح صفحة جديدة وإيجابية ومثمرة مع الجارة طهران التي استضافت وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بعد يوم من القمة الروسية-التركية-الإيرانية.
الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان قال بعد عودته إلى أنقرة: إنه والرئيسين بوتين ورئيسي لم يتّفقوا على عدد من الأمور التي بُحثت، ويعرف الجميع أنها كلّها تهمّ الوضع السوري. وربما لهذا السبب دعا الرئيس بوتين إردوغان إلى قمة عاجلة في سوتشي في الخامس من آب/أغسطس ليذكره ببنود اتفاق سوتشي الأول في 17 أيلول/سبتمبر عام 2018 والخاص بإدلب.
وربما لهذا السبب قال إردوغان "إن الغرب ليس على حق في معاملة الرئيس بوتين"، في محاولة منه لخطب ود بوتين ودعمه في المرحلة المقبلة، التي قد تشهد تطوّرات إقليمية مثيرة محورها سوريا، خصوصاً بعد زيارة وزير الخارجية الجزائري، رمطان لعمامرة، لدمشق ولقائه الرئيس الأسد.
وإن صحت التوقعات تواجه تركيا ضغوطاً عربية وإقليمية، بل وروسية للتعاطي مع الملف السوري بأسلوب آخر، وهو ما سيتطلّب منه مواجهة ضغوط العواصم العربية التي لا تطالبه بالانسحاب من سوريا وحسب، بل من ليبيا والعراق كذلك.
وهو، أي العراق، وبضجته الأخيرة حول قصف زاخو، بعث برسالته الأولى إلى أنقرة. إن بغداد هذه هي ذاتها التي في ظل كل حكوماتها، بما فيها الشيعية المحسوبة على طهران، سكتت وتجاهلت كل الأعمال العسكرية التركية في الشمال العراقي وفتحت أبواب العراق على مصراعيها للشركات التركية التي حقّقت أرباحاً وصلت إلى 50 مليار دولار بفضل المشروعات التي نفّذتها الشركات التركية أو من خلال حركة التجارة بين البلدين.
وكانت ذريعة أنقرة دائماً في عملها العسكري وجود مسلحي الكردستاني في جبال قنديل شمالي العراق، وهم الآن في الشمال السوري، بحماية أميركية وغربية، وذلك بسبب سوء معالجة تركيا لملفها الكردي، بعدما وصل عدد مسلحي الكردستاني (تحت اسم وحدات حماية الشعب الكردية) في شرق الفرات إلى عشرات الآلاف مزودين بمختلف الأسلحة الثقيلة بعد أن كانوا في جبال قنديل يحملون أسلحتهم خفيفة يحاربون بها تركيا منذ عام 1984.
ويبقى الرهان على المؤشّرات العربية الإيجابية على طريق المصالحة أو التطبيع مع طهران، وهو إن تحقّق فسوف ينعكس إيجاباً على التطورات المحتملة ليس في سوريا وحسب، بل في لبنان واليمن أيضاً. ليكون ذلك بمثابة الانتكاسة الثانية لـ"تل أبيب" التي أخفقت في تحقيق أهدافها في قمة جدة، ولم تعد تخفي قلقها من المواقف الروسية ضدها، خصوصاً بعد تهديدات السيد حسن نصر الله لها من دون أي رد فعل عربي أو دولي كما اعتادت "تل أبيب" في الماضي.
على أن يكون الرهان الآخر على الموقف المحتمل للرئيس إردوغان، الذي لن يكون سهلاً عليه القبول بما ستمليه عليه التوافقات الإقليمية، خصوصاً مع إيران، وستطالبه بالانسحاب من سوريا والعراق، وذريعته في البقاء هناك هي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، ويعتقد أن وجوده العسكري في سوريا مع مسلحي المعارضة السورية بل والنصرة، قد يمنحه مزيداً من أوراق المساومة مع الأطراف الأخرى بما فيها بغداد، التي يبدو أنها ستصعّد لهجتها ضد أنقرة في المرحلة المقبلة، وخصوصاً بعد المصالحة السعودية–الإيرانية، وقبلها أو بعدها فوراً سيجري انتخاب الرئيس العراقي الجديد، ثم تؤلّف حكومة عراقية لجديدة، وهو ما يتطلب توافقاً عربياً إيرانياً، حتى إن سعت أنقرة لعرقلة ذلك بتحالفاتها المعروفة مع الأطراف السنية والكردية البارزانية، بل وبعض الشيعة، وكل ذلك بدعم الحليف التقليدي قطر.
وفي جميع الحالات يبدو واضحاً أننا لن ننتظر كثيراً حتى نرى ما ستحمله الأيام القليلة المقبلة وقد تكون تطوراتها إيجابية للجميع، باستثناء الرئيس إردوغان، الذي استبقها كلها بمصالحة الإمارات والسعودية و"إسرائيل"، وهو مستمر مع مصر، التي يعرف الجميع أن همها الأكبر هو ليبيا، التي تؤدي فيها تركيا دوراً أساسياً وضدّ المصالح المصرية بالدرجة الأولى ما دام المتحالفون مع إردوغان هم من الإسلاميين على احتلاف ميولهم وأطيافهم بدرجات مختلفة من الاعتدال والتطرف.
هؤلاء جميعاً يدورون في الفلك الإخواني الذي يرى فيه السيسي عدواً لدوداً له، بالقدر نفسه الذي يرى فيه إردوغان في السيسي عدواً لدوداً له، لأنه بانقلابه في تموز/يوليو 2013 أخفق مشروعه العقائدي والتاريخي بعد ما يسمى "الربيع العربي".
وبكلام الشارع "إن غداً لناظره قريب"، خصوصاً بالنسبة إلى الرئيس إردوغان الذي قد يجد نفسه في عزلة تامة إقليمياً بعدما خسر حلفاءه الغربيين، ولم يعودوا يثقون به بسبب تصريحاته ومقولاته وتصرفاته ومواقفه المتناقضة، وهو السبب في الوضع الذي آلت إليه الأمور في تركيا على صعيد السياستين الداخلية والخارجية.
سبب ذلك كله هو إردوغان، على حد قول أحزاب المعارضة التي نجحت في تضييق الحصار عليه مع اقتراب موعد الانتخابات، وما على إردوغان إلا أن يواجه أعداءه قبلها، وحتى لو تطلب الأمر منه أن يتخلى عن كل شيء، وهذا ليس صعباً عليه، لو لم يكن عداؤه الشخصي للرئيس الأسد من بين هذه الأشياء.
* نقلا عن :الميادين نت