يبدو لي من خلال السياق التاريخي لليمن أن العقدة ” اليزنية ” كانت سبباً في تنافر النسيج الوطني وعدم انسجامه في مسارات وسياقات التاريخ ونكاد نقرأ تلك العقدة في تحركات وأنشطة القوى السياسية التي صنعت واقعا مأزوما وصل إلى نفق مظلم يتعذر علينا الخروج منه إلا بمصابيح الآخر وقناديله.
إن قضيتنا ليست قضية استبدال حالة بحالة مماثلة لها ولكنها قضية انتقال، ذلك أن الاستبدال يتطلب سقوط القائم وإقامة الآخر بدلا عنه، أما الانتقال فهو عملية توافقية لا تتسم بالثبات بل بالحركة التي تحاول أن تلبي طموحات السواد الأعظم من الجماهير بمختلف الطوائف والمذاهب والمشارب التي تنتمي إليها وهو – أي الانتقال – بمثابة صعود تراتبي من مرتبة إلى أخرى تكون أفضل منها وأكثر استيعابا لمتطلبات المرحلة، ويبدو أن بعض القوى الوطنية التقليدية تعمل جاهدة على حالة الاستبدال الذي هو هدم القائم والوقوف عند ذات المرتبة والقيمة، نستبين ذلك من خلال حالة الصراع الذي تشهده الساحة الوطنية وهو صراع يمتد في العمق التاريخي وله عوامله النفسية والاجتماعية والسياسية وهدفه تشتيت القوة وإضعافها وخلق حالة واقعية من حالات الاستغراق في سياسة الأزمات ومبررات الصراع بين الأصوليات العقائدية.
يقول البردوني:
إن الأزمات في بلادنا بلغت حد التأله لانعدام المحاولات أمامها، وقدرتها على الاتساع والامتداد في فراغ من الإنسان وفكر الإنسان.
ويقول في مكان آخر:
عظماء الرجال يبذلون التضحية لوجه التضحية لا لوجه الوصولية وشراء الهتافات الجماهيرية والأنبياء عليهم السلام لاقوا أشد ما لاقوا على أيدي الجماهير المغرر بها لكنهم كانوا يجهدون في خدمة هذه الجماهير ولو كابدوا عقوقها لأنها لم تكن تدري من يقودها إلى الهدى أو من يوجهها إلى الضلال.. لكن الجماهير تعرف بعد وقت طويل أو قصير من يستهدف نفعها ومن يبتغي نفع نفسه من توجيهها والتغرير بها.
ويقول أيضا:
الشعب لم يعد ذلك القطيع الوديع بعد أن عرف أنه سيد الأرض ومصدر السلطة بل إن كل سلطة مدينة بوجودها للمواطن الذي أنكر سلطة سيئة وبحث عن سلطة أفضل لأن كل زعامة سياسية أو قيادة عسكرية لا بد أن تكون وليدة ظروف لكن هذه الظروف من خلق المواطنين العاديين لكثرتهم وحرارة تجاربهم مع محترفي السياسة .
ومن هنا يتجلى الفرق العملي بين من يصنعون الفرص وبين من يستغلونها وبين من يفجرون الأحداث ومن يصعدون على دخانها فالذين ترفعهم أحداث تسقطهم أحداث والذين تخلقهم فرص تعدمهم فرص أخرى والوسيلة الوحيدة في بقاء أي زعامة هو النزول عند رأي الشعب مفجر الأحداث وصانع الفرص”.
تلك الومضات البردونية جاءت من ثمار المراس وطول التأمل، فحالة التبدل والانتقال والتغاير تفرض صيغة جديدة تتوافق معها، فالوصول إلى السلام طريقة تبدأ من مدخلاته الأساسية وهي الحوار والوصول إلى الحوار لا يبدأ إلا من مدخلاته الأساسية وهي التعايش والقبول بالآخر واحترام خياراته وقناعاته، ولا سبيل إلى الاستقرار إلا بصياغة عقد اجتماعي قائم على التوافق وتكفل مضامينه حق المواطنة والمشاركة وصناعة المستقبل وتضع الأسس والضوابط التي تمكن المجتمع من الانتقال والنهوض وتحد من مناخات الفساد وبيئاته وبحيث يكون تعبيرا عن ذات حضارية تتجذر في عمق التاريخ لا تعبيرا شكليا وافدا من خارج ذلك النسق الثقافي لهذا المجتمع، وفي ظني أن الاستغراق في الآخر والوثوق به إلى درجة اليقين المطلق دوران في متاهات العقدة “اليزنية ” والعقدة اليزنية تيه لن يفضي إلا إلى فراغ .
فاللعبة الدولية ذات القطب الواحد، والقرار الواحد على مشارف النهاية، فنحن اليوم نعيش حالة تحول دولي، وحضور الذكاء السياسي في المرحلة من الضرورات القصوى، وسياسة الاتكال، أو سياسة الاستبداد، لم تعد من ملامح القادم، ومن أراد البقاء في عالم اليوم، لابد أن يخوض غمار السياسة بكل تلونها وألوانها، ووفق ظلالها في الواقع، أما الذين يفقدون القدرة على التفاعل مع تجلياتها، فسوف تتركهم كضحايا معلقين على أعواد التاريخ .
القوة اليوم ذات أبعاد متعددة، وتكمن في المعرفة وقوة الوعي، والفكر، والطريق، والمنهج، والمشروع السياسي والثقافي والاجتماعي الواضح المعالم، وفي القوة الاقتصادية، فالمرء كلما كان مكتفيا ومصنعا وغير معتمد على سواه شعر بالقوة، يؤازر ذلك العقيدة العسكرية، والهوية الوطنية القادرة على الصمود أمام العواصف والأنواء، وبمثل ذلك تصبح المعادلة ذات قيمة في البناء الدولي، فصاحب الحاجة مستعبد، والسيد من ملك قرار نفسه، وحقق لشعبه كل متطلبات العيش الكريم .
كما أن عنصر العدل والخيرية من عناصر القوة في أي مجتمع، فالذات الفردية حين تشعر بقوتها وفاعليتها وبتوفر فرص البقاء، تعمل جاهدة على تفجير طاقاتها في مجال النفع العام، وحين تشعر بتهديد الواقع لها، تقاومه وتعمل على تقويضه، وهو الأمر الذي نعيش كل ملامحه اليوم، فالذات التي مالت إلى الآخر لم تمل إلا بحثا عن قيمتها في واقع أصبح يهدد وجودها الفردي، ولذلك أصبح الكثير يعمل تحت شعارات قاتلة، وتحولت الكيانات والتعبيرات إلى شركات أمنية، وشركات عسكرية، تعمل لصالح دول ومصالح دولية، شأنهم في ذلك شأن مقاولي الإنشاءات، يتلقون المواصفات ويقومون بالتنفيذ لتحقيق استراتيجيات دولية، هذه الاستراتيجيات تضع المقدمات للمقاولين فيقومون بتنفيذها، وهي على دراية كاملة بالنتائج التي سوف تصل إليها في ظرف زمني معلوم سلفا، فالعالم قد وصل إلى فضاءات معرفية متعددة، بها ومن خلالها يدير شأنه اليوم، فالمعرفة من ضرورات المراحل كلها، وهي عنصر مهم من عناصر الانتقال من الصراع إلى الاستقرار, والبناء قضية وطنية صرفة وهي توافقية لن تأتي من الخارج ولكنها وليدة الحالة الوطنية وتجلياتها، ولا معنى للعمالة فيها لكون العمالة متاهاً يزنياً لا بد لنا أن نجتاز عقباته النفسية والثقافية والسياسية وهي عقبات كأداء .
اليمن ينتظر منا أن نصنع ألقا حضاريا لا نكوصا واجترارا لعثرات التاريخ المختلفة والمتعددة سواء في ماضيه أو حاضره، وكل التجارب في الواقع تحتاج وعيا ومعرفة قبل أن تجرنا إلى مربعات خطرة لا نحمد عقباها ومؤشرات الواقع بالانقسامات بدأت تتزايد معدلات نموها وتفصح عن نفسها على شبكات التواصل الاجتماعي وقديما قيل كل الحرائق من مستصغر الشرر.