بعد ساعات قليلة من الانفجار الذي استهدف شارع الاستقلال في إسطنبول، داهم الأمن منزلاً في إحدى ضواحي إسطنبول وألقى القبض على المتهمة بالتفجير ومن معها في المنزل، وقيل إنها سورية الأصل واسمها أحلام البشير، وتحدث وزير الداخلية سليمان صويلو عن علاقتها بـ«حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب الكردية» في سوريا.
السلطات، وبعد دقائق من الحادث، منعت بث ونشر أي معلومة عن الانفجار، كذلك شددت الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي بعد أن قيّدت تماماً التواصل عبر هذه الشبكات.
وزير الداخلية صويلو، الذي كان يشارك في حفل توزيع المساكن على السوريين بجوار إدلب، عاد إلى إسطنبول ليشرف على عمليات التحقيق، فاتّهم أمريكا بشكل غير مباشر بالمسؤولية عن التفجير، وهو ما يكرره صويلو والرئيس أردوغان بين الحين والحين، إذ يتهمان واشنطن بدعم الإرهاب، والمقصود «وحدات حماية الشعب الكردية»، الذراع السورية لـ«حزب العمال الكردستاني التركي».
المعارضـــــة والإعــــلام يتهربان من الحديث بصوت عال عن خلفيات العملية، التي استغرب الجميع كيف استطاع الأمن أن يحدد هوية المواطنـــة السوريــــة، ويداهم مسكنها، خلال ساعات قليلة، ويلقي القبض عليها ومن معها، ومن دون أن يكون واضحاً لماذا لم يعتقل الأمن هؤلاء جميعاً طالما أنه يعرفهم ويراقبهم ربما منذ دخولهم تركيا!
وهنا، يذكّر البعض بالعملية الانتحارية التي نفّذها عناصر «داعش»، والتي استهدفت محطة القطار في أنقرة في 10 أكتوبر 2015، وراح ضحيتها 103 مواطنين جميعهم من اليساريين. وقال أحمد داود أوغلو، وكان آنذاك رئيساً للوزراء: «كنا نراقب تحركات الانتحاريين، وكان هدفنا إلقاء القبض عليهــــم بالجــــرم المشهود». وكان ذلك سبباً لانتقادات عنيفة من المعارضة، بخاصة أن داود أوغلو كان قد قال إن «العمليات الإرهابية تزيد من شعبية حزب العدالة والتنمية». وهو ما كان صحيحاً لأن «العدالة والتنمية» الذي خسر الأغلبية في انتخابات يونيو 2015 عاد واستعادها في انتخابات نوفمبر، بعد سلسلة من الأحداث الإرهابية التي استغلها أردوغان في حملته الانتخابية من يونيو وحتى نوفمبر.
فالمعارضة بل حتى الشارع التركي، ومنذ فترة، لا يخفيان قلقهما من احتمالات أن يكرر التاريخ نفسه مع اقتراب موعد الانتخابات في مايو القادم، إذ تعتمد حملة أردوغان الانتخابية على مقولة «إذا جاءت أحزاب المعارضة إلى السلطة فستدخل البلاد في دوامة الأحداث الإرهابية». ويتحدث آخرون عن احتمالات التصعيد الخارجي في سوريا والعراق وليبيا، بل حتى مع اليونان وقبرص، إذا لم يكن الحديث عن الإرهاب الداخلي كافياً لشحن الشعور القومي ومعه الديني ضد أعداء تركيا داخلياً وخارجياً لضمان فوز أردوغان في الانتخابات.
ومن دون أن يهمل المراقبون الإشارة إلى أهمية التوقيت الزمني للعملية الإرهابية التي جاءت بعد أسبوع من محاولة أردوغان «تحقيق الانفراج» مع «حزب الشعوب الديمقراطي»، وهو الجناح السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني» في محاولة منه لإبعاد هذا الحزب عن «تحالف الأمة» الذي لن يهزم أردوغان في الانتخابات إلا إذا كسب أصوات الكرد والتي تقدر بنحو 6 ملايين ناخب.
مع التذكير أن أردوغان ووزراءه، بل وشريكه في «تحالف الجمهور»، دولت باخشالي، زعيم «حزب الحركة القومية» العنصري المتطرف قد شنوا طيلة السنوات الماضية هجوماً عنيفاً على «حزب الشعب الجمهوري» باتهامـــه بالإرهـــاب والخيانــة والعمالة بسبب حواره مع «الشعوب الديمقراطي».
الرئيـــس أردوغـــــان الذي فاجأ الجميع باستداراته المثيرة في السياســــة الخارجية، فاجــــأ الجميع هذه المرة بمحاولات المصالحة مع «الشعوب الديمقراطي» ناسياً كل ما قاله عنه، أولاً لإبعاده ومعه «وحدات حماية الشعب» الكردية عن دمشق، وثانياً عن واشنطن. ويفسر ذلك هجوم وزير الداخلية صويلو على أمريكا بعد ساعات من الانفجار، مع التذكير بتصريحات أردوغان ووزرائه العنيفة ضد مساعي الحوار بين دمشق و«الوحدات الكردية» وبوساطة روسية.
وتدفعنا اتهامات صويلو لأمريكا، إن كان جاداً فيها، للحديث عن محاولات الأطراف الكردية التي تأتمر بأوامر واشنطن عرقلة مساعي أردوغان للمصالحة مع حزب «الشعوب الديمقراطي». وكان من أهم مؤشراته أن السلطات سمحت قبل أيام للرئيس المشترك السابق للحزب صلاح الدين دميرطاش المسجون منذ 6 سنوات بزيارة والده المريض في مدينة ديار بكر. مع التذكير أن السلطات رفضت دائماً كل الطلبات التي تقدمت بها عائلة دميرطاش لنقله من سجن أدرنة (يبعد نحو 1400 كم عن ديار بكر) إلى مكان قريب من مكان إقامة العائلة. كذلك أخلت السلطات قبل أيام سبيل برلمانية سابقة عن حزب «الشعوب الديمقراطي» بعد تقرير من الطب الشرعي يفيد بوضعها الصحي المتدهور، أيضاً أخلت سبيل 3 من كوادر الحزب الذين كانوا يحاكمون بتهم الإرهاب.
ومع أن الانتخابات المقرر إجراؤها أواسط مايو القادم مازالت بعيدة، فالجميع يرشح البلاد لسلسلة من المفاجآت المثيرة، بعض منها خطر. فالرأي السائد في الشارع التركي أن أردوغان سيفعل كل شيء، وسيستنفر كل إمكانيات الدولة لضمان فوزه في الانتخابات ومهما كلفه ذلك وكلف الدولة والأمة التركية، بخاصة أنه يسيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها، وأهمها الجيش والمخابرات والأمن والقضاء، و95% من الإعلام الحكومي والخاص. مع التذكير أن إعلام المعارضة تحت رحمة القضاء والمجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون ومؤسسة الاتصالات التي قد تغلق حينها كل القنوات وشبكات التواصل لمنع المواطن من الوصول إلى أي معلومة لا يريدها أردوغان، وهذا ما عشناه خلال الساعات الأخيرة.
وتبقى هناك ملاحظة أخيرة وهي تسابق زعماء وحكومات عدد كبير من الدول، ومنها عربية، للتعبير عن استنكارهم للعمل الإرهابي في إسطنبول ومن دون أن يحركوا ساكناً ضد ما قامت به «إسرائيل» وتقوم به ضد الشعب الفلسطيني يومياً، مع التذكير أيضاً أنه في التوقيت نفسه الذي وقع فيه انفجار إسطنبول كانت «إسرائيل» تقصف مطاراً قرب مدينة حمص السورية، والأحداث من هذا النوع لا تعدّ ولا تحصى ولكنها لا تحرك ساكناً في وجدان الأنظمة العربية وغيرها!
* نقلا عن : لا ميديا