عندما نتأمل مثلاً في واقع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” ما قبل البعثة بالرسالة والصدع بها، هناك نقطة من أهم النقاط التي يجب أن نستوعبها جيداً، رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كان موحِّداً لله، كان يدين بالتوحيد، كان ابراهيمياً؛ وبالتالي لم يكن يشترك مع تلك البيئة وذلك المجتمع في عبادة الأصنام، والملأ في ذلك المجتمع والمجتمع بشكلٍ عام يعرفون هذه الحقيقة: أنَّ رسول الله هو من الموحِّدين لله، وهو لا يدين بالشرك كما هو حال الآخرين.
رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” قبل البعثة بالرسالة، منذ نشأته، منذ طفولته، ثم النشأة في مراحل الشباب، وصولاً إلى البعثة بالرسالة الإلهية والصدع بها، كان أيضاً ملتزماً ومستقيماً على مكارم الأخلاق، وكان معروفاً بتميزه في ذلك، فكانت أخلاقه هي مكارم الأخلاق، وكان مستقيماً وطاهراً وزكياً، ومبتعداً عن الرذائل والمفاسد، معروفاً أيضاً بالعفة، معروفاً بالأمانة، معروفاً بالصدق، فهو كان موحِّداً لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” وكان أيضاً على المستوى الروحي له عبادته والتي كثيرٌ منها هي حالة التفكر، وكانت له مواسم معينة يعتزل فيها للعبادة لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” فهو معروف في أوساط المجتمع بكل ذلك، وكل ذلك لم يكن سبباً لمشكلةٍ له مع قومه،
يعني: لم ينزعجوا منه ويحاربوه بسبب كل هذا: بسبب أنه من الموحِّدين لله، أو بسبب أنه يتفرغ للعبادة لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” أو بسبب أنه يلتزم بمكارم الأخلاق، ومعروفاً بمكارم الأخلاق، ويتخلق بمكارم الأخلاق، وأنه يختلف عن ذلك المجتمع فيما هو عليه ذلك المجتمع من ممارسات وانحرافات وفساد، ولا يشاركهم تلك الخرافات وتلك الممارسات والسلوكيات السلبية، يختلف عنهم في كل ذلك، لم يكن هذا- في نفسه- يسبب مشكلةً للنبي “صلوات الله عليه وعلى آله” مع قومه، ويدخله معهم في صراع شديد، لكن عندما بعث بالرسالة الإلهية حصلت المشكلة مع الملأ منهم، ومع الكثير من أتباع أولئك الملأ الذين ارتبطوا بهم وتأثَّروا بهم، لماذا؟
هذه مسألة تفيدنا- أيها الإخوة والأخوات- حتى الآن في نظرتنا إلى الإسلام، في نظرتنا إلى الرسالة الإلهية كيف هي؛ لأن البعض من المحرِّفين والمنحرفين يحاولون أن يقزِّموا الرسالة الإلهية، وأن يفرِّغوها من محتواها المهم، ومن لُبِّها الحقيقي كمشروع إلهي يحرر الإنسان، يبني الحياة على أساس منهج الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” يحاولون أن يبعدوا عن هذه الرسالة تلك الأسس المهمة والعظيمة والرئيسية التي يرون فيها مشكلة مع المستكبرين في كل زمن، ثم يحاولون أن يقدِّموا شكلاً آخر للرسالة الإلهية وللإسلام، وكأنها مجرد طقوس عبادية، وكأن الإسلام أيضاً مجموعة من الأخلاق الطيِّبة التي يلتزم بها الإنسان كسلوك، هذا جزء من الإسلام، جزء من الدين الإلهي، جزء من الرسالة الإلهية، لكنه ليس كل الإسلام، ليس كل الرسالة الإلهية، مع الجانب الروحي مع العبادات الروحية إذا فصل هذا وذاك عن جوهر هذه الرسالة كمنهج للحياة، إذا فصل عن جانب العدل في هذه الرسالة، عن المبادئ التي تحرر الإنسان من العبودية للطواغيت، عن المبادئ التي تحمي هذا الإنسان من استغلال المستكبرين والظالمين والمتسلطين؛ تصبح تلك الطقوس وتلك الأخلاقيات مفصولةً عن تأثيرها الفعلي في واقع هذه الحياة، غير مجدية في واقع هذه الحياة، ذات تأثير محدود وبسيط جدًّا في واقع هذه الحياة، ولذلك كان بالإمكان أن يتأقلم المشركون في مكة مع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” في حالة أن كان اهتمامه على ما كان عليه ما قبل البعثة بالرسالة الإلهية، ينحصر في طقوس عبادية معينة، ويستمر في برنامجه: يخلوا في غار حراء للتعبد والتفرغ والتفكر، ويتنسك لله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” ويختلف معهم في مسألة الشرك والتوحيد، ويتميَّز عنهم في أخلاقه الكريمة، كانت مسألة يمكن أن يتحمَّلوها، ولكن البعثة بالرسالة الإلهية بمبادئها العظيمة، بجوهرها ولُبِّها الرئيسي كان بالنسبة لهم مزعجاً جدًّا، فلم يتحملوا ذلك أبداً.
العامل الأول- كما قلنا- يعود إلى المستكبرين، والمستكبرون انزعجوا لماذا لم يكن الرسول واحداً منهم، واحداً من أولئك المستكبرين، يتصورون المسألة مجرَّد زعامة، مجرَّد سلطة، مجرَّد مركز اجتماعي ومنصب معين للتمتع من خلاله بالسلطة والنفوذ والتأثير والمصالح والاستغلال الذي يعيشونه، فكانت كلمتهم المعروفة التي نقلها لنا القرآن الكريم: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}[ص: من الآية8]، هذه عندهم مشكلة كبيرة: كيف ينزل هذا الذكر (يعني: القرآن الكريم، والرسالة الإلهية) إلى رسول الله محمد “صلوات الله عليه وعلى آله” الذي لم يكن واحداً من أولئك الملأ المتسلِّطين، الأثرياء، الذين يمتلكون السلطة والثروة وذلك النفوذ المبني على سلطة وثروة مادية هائلة.
وكان المجتمع أيضاً من حولهم ينظر إليهم هم من موقعهم في السلطة، والثروة، والنفوذ، والاستغلال، ينظر إليهم على أنهم هم الكبار الذين يتَّبعهم، الذين يتأثَّر بهم، يقتنع بما هم عليه، يلتزم بما هم عليه، يقتنع بأقوالهم، بأفكارهم، بسياساتهم، يسير وفق توجهاتهم، هذه كانت نظرة مؤثِّرة على المجتمع في نفس الوقت، وأثَّرت إلى حدٍ كبير، حتى كان المعيار المادي هو المعيار المؤثِّر في أوساط الكثير من أبناء المجتمع آنذاك، يعني: ينظرون إلى الإنسان كعظيم بقدر ما يمتلك من ثروة ونفوذ وتأثير وسلطة،
وليس بقدر ما هو عليه من الحق، وما يمتلكه من قيم، وما يتخلق به من أخلاق، الرصيد الأخلاقي والقيمي لا يمثِّل بالنسبة لهم وزناً في أوساط المجتمع، ينظرون في مسألة الاتباع، في مسألة التأثر، في مسألة القناعة إلى تلك الفئة المستكبرة، بالرغم من أنها فاقدة للمبادئ والقيم، يأتي شخص معين يمتلك ثروةً، يمتلك سلطةً، يمتلك نفوذاً في أوساط المجتمع مبنياً على تلك السلطة والثروة، ينظرون إليه مهما كان مفلساً على مستوى المعرفة، على مستوى المبادئ، مهما كان منحطاً على المستوى الأخلاقي، ومفلساً على المستوى الإنساني والأخلاقي، لا يلتفتون إلى ذلك،
ينظرون إليه إلى أنه كبير بقدر ما لديه من ثروة وسلطة ونفوذ؛ فينشدون إليه، ويتأثَّرون به، ويتَّجهون في الاتجاه الذي هو عليه، وهذه حالة سلبية جدًّا، لا يزال تأثيرها يمتد في واقع الناس، في الواقع البشري إلى اليوم، ولن يزال كذلك في حالة من الامتداد، لا ينقذ الناس من هذا التأثر إلَّا الاستيعاب للقيم والمبادئ الإلهية، والاهتداء بهدى الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”.
ولذلك نقل القرآن الكريم كيف كان يقول ذلك المجتمع: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف: الآية31]؛ لأنهم ينبهرون بعظمة القرآن الكريم، مع أنهم كفروا به، لكنهم كانوا منبهرين به، وكانوا في قرارة أنفسهم يدركون أنه من الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” وأنه ليس صناعةً بشرية، ولا إعداداً بشرياً؛ فلذلك كانوا منبهرين به، لكن كان عندهم هذه العقدة: لماذا لم ينزل على أحد أولئك الزعماء؟ قالوا: (مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) يعني: مكة أو الطائف، (عَظِيمٍ)؛ لأن العظمة عندهم كانت تقاس بالماديات: من هو ذو الثروة الكبيرة، والإمكانات الهائلة؛ فهو- بنظرهم- العظيم الذي يتَّبعونه، الذي يسيرون وراءه،
وهكذا نجد هذه مشكلة كبيرة أثَّرت عليهم: النظرة المادية، الارتباط بالملأ المستكبر والزعامات المستكبرة التي صدَّتهم عن الإيمان بهذا الهدى، وعن نيل هذا الشرف العظيم، مع أنَّ هذه الرسالة في أصلها، في جوهرها، في مبادئها، في قيمها، في أخلاقها… جذَّابة، وتنسجم مع الفطرة، ولحملها والإيمان بها الشرف الكبير التي تنال به الأمة التي تؤمن بها وتلتزم بها السيادة في الواقع البشري، أن يكون لها الدور العظيم في الواقع البشري، أن تتأهل لقيادة البشرية، قيادةً قائمةً على أساس الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قيادةً قائمةً على التحرك بالبشرية لتكون في مسيرة حياتها- للنهوض بمسؤوليتها في الاستخلاف في هذه الأرض- لتكون وفق منهج الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى” كان الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” يعدهم بهذا الشرف العظيم، بهذا الفضل الكبير، ويذكِّرهم به،
ولكن- الكثير منهم- لم يلتفتوا إلى ذلك، وبقي الكثير منهم مصراً على موقفه وعناده وكفره، إلى درجة أنَّ الكثير منهم وصل إلى مستوى الخذلان، وصل إلى المستوى الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بقول الله “سُبْحَـانَهُ وَتَعَالَى”: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[يس: الآية7]، إلى هذه الدرجة السيئة جدًّا والخطيرة للغاية التي وصلوا بها إلى هذا المستوى: مستوى العناد الشديد الذي عبَّروا عنه هم في دعائهم عندما قالوا كما نقل القرآن عنهم ذلك: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ} يدعون الله {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال: الآية32]، وصلوا إلى هذه الدرجة في موقفهم السلبي جدًّا من هذا الهدى ومن هذا الحق، وعنادهم الشديد جدًّا.
الله أكبر
الموت لأمريكا
الموت لإسرائيل
اللعنة على اليهود
النصر للإسلام
السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
المحاضرة الثانية من محاضرات الهجرة النبوية 1441 هـ
*نقلا عن : موقع أنصار الله