ظلَّ اليمن أرضاً وإنساناً محكوماً بنظم ومعايير ظاهرة الاستبداد، التي دامت لأكثر من أربعة عقود، إلى أنْ جاءت ثورة الحادي والعشرين من أيلول/سبتمبر حاملةً مشعل الخلاص، ومعلنةً نهاية مرحلة زمنية بكل رموزها الأشرار والظلاميين، وبجميع مظاهرها وأشكالها فكراً وقوةً ونظاماً طبقيا، ولكن الثورة وإنْ قضت على رموز الاستبداد فإن ذلك يعني بداية المعركة الحاسمة والحقيقية، لأنها تواجه ظاهرةً ألقت بظلالها على الواقع كله، فالمستبد وما قام به من ظلم قد أوجد تصدعات وانهيارات في الأفكار والنفسيات، وسعى لتكريس الاختلاف والتناقض بينه وبين الشعب الواقع في قبضته، كما لا يخفى على أحدٍ أننا لم نجد مكاناً في تلك المرحلة خالياً من الروحية الفرعونية، التي تضخمت الذات لديها إلى المستوى الذي جعلها تشعر بأنها لا بد أن تصعد في درجات العلو، حتى تصير في مقام المعبود من دون الله، تماماً كما فعل فرعون، «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إلهٍ غيري». مع ملاحظة الاختلاف في صيغ ادعاءات الفراعنة في تلك الفترة على صيغة الادعاء الذي أطلقه فرعون الأب لكل هؤلاء، وخلده القرآن الكريم، وكما تختلف صيغ الدعوات للفراعنة فكذلك تختلف طرق العبودية المؤداة من عبيدهم لهم، إلا أن القاسم المشترك بين جميع أتباع المدرسة الفرعونية عبر العصور، هو عدم الاكتفاء بالحصول على المنصب والثروة، وممارسة الظلم والقهر والاستغلال، فلا بد من إضفاء القداسة على ذواتهم، وبالتالي على أفكارهم وقوانينهم ونظرتهم للحياة «قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد». إذن نحن أمام توجه لفرض رؤية واحدة على كل الناس، لكونها الحق المطلق الذي لا يجوز مخالفته، ولا الارتباط بسواه، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع الأمة، وتعطيل وتجميد قواها وطاقاتها وإمكاناتها المختلفة، لينقسم المجتمع بعدها إلى قسمين هما:
1. أتباع خانعون وأذلاء يعيشون حالة من الشعور بالغبن، وانعدام الوزن، وانعدام الثقة بالنفس، مع اتساع دائرة الفرقة والشتات في ما بينهم، وهم يمثلون الغالبية من أبناء المجتمع.
2. كبراء وأسياد لهم الحق بكل شيء، باعتبارهم لأنفسهم أرباباً لا قادة، وهم قلة، فيعم الظلم والاضطهاد، وينتشر الجهل، لكونه هو المنطلق المعول عليه إيجاد المدافعين عن هؤلاء الكبراء، الذين لا يمكن لهم أن يبقوا ما لم يقف معهم ويقاتل دونهم الهمج الرعاع «أتباع كل ناعق»، لذلك فإن المستبد يعمل على تقديم نفسه وما يعمله من زاوية دينية عقائدية، ليضمن استقطاب أكبر قدر ممكن من الجهلة والحمقى والناقمين على الحياة الكارهين لأنفسهم.
من هنا جاز لنا التساؤل كمنتمين لثورة مجيدة، وأبناء لشعب ومجتمع عانى من الظلم والاستبداد قبل الثورة: هل عملنا على تضييق دائرة الهمج الرعاع، وتتبعنا جميع خطواتهم، وكشفناهم للناس؟ أم أننا استرحنا لركوبهم الموجة، وباركنا تصدرهم المشهد في التحدث باسم الثورة ورجالها، ودفاعهم عن قضاياها بأسلوبهم الخارجي الفج؟
وهل بذلنا شيئا من جهد على مستوى الحركة العملية والفكرية لتجفيف مظاهر التباين الطبقي، وردم منابع الفرقة والاختلاف، من خلال فرض العدل وتعميمه، واستعادة الحقوق؟
وهل لدينا استشعار للمسؤولية في التخطيط لإيجاد الكيفيات والأساليب العملية التي لا بد منها لكي نتمكن من استئصال الاستبداد من جذوره، كي لا يكون تحركنا متوقفا على استبدال مستبدين بمستبدين آخرين، لأن مَن عاش القهر والاستبداد وعانى من الظلم إذا لم يتم توجيهه وتربيته وفق منهجية الثورة، فسيصبح عند التمكين أكثر ظلماً واستبداداً وطغياناً من الذين ثار عليهم، لذلك علينا العمل بذات الفاعلية والقوة في مسارين: مسار الجهاد الخارجي المتمثل بمواجهة العدو، والجهاد الداخلي المتمثل بجهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر، فمثلما تحتاج الثورة إلى قوات مسلحة لجهاد عدوها في المعركة، هي بحاجة كذلك إلى جيش من الواعين والتعبويين والمفكرين الصادقين للحفاظ على مكتسباتها وحمايتها من التشوه أو الانحراف أو التدنيس.
* نقلا عن : لا ميديا
طباعة الصفحة
مقالات ضدّ العدوان
فيسبوك 
تويتر 
يوتيوب 