|
-
سفيان الجنيدي
أصبح جليّاً للعيان أنّ وقع الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر ورجحان كفة المقاومة الفلسطينية الباسلة في المعركة البرية في قطاع غزة، حتى كتابة هذه السطور، كان أشدّ وقعاً وإيلاماً على المرجفين والصهاينة العرب من "دولة" الكيان الصهيوني بشقّيها العسكري والمدني.
لطالما حاول الطابور الخامس من الساسة ورجال الأعمال العرب ليس فقط التنصّل من القضية الفلسطينية وشيطنتها، ولكنهم عمدوا أيضاً وبشتى الطرق ومنذ بواكير المأساة الفلسطينية في ضمائرهم الميتة وخلف الغرف المغلقة التواطؤ والتآمر عليها، ولم يكتفوا بذلك الحد من التخاذل والتساقط والعمالة فحسب، بل إنهم تمادوا في غيّهم وبشكل مجلل بالعار وغير مسبوق فجنحوا إلى التخندق في المعسكر الصهيو-أميركي ودعمه مالياً واستخبارياً وعسكرياً، والمشاركة جنباً إلى جنب مع قواته وبشكل فعّال في قصف الأهداف المدنية البريئة في قطاع غزة.
انتصرت القضية الفلسطينية العادلة في معركة الطوفان الفاضحة الكاشفة التي أسقطت ورقة التوت والأقنعة، وشطرت العالم وبصورة لا لبس فيها، إلى معسكرين متضادين، غير قابلين للمهادنة والتآلف مرة أخرى فيما بينهما في مقبل الأيام: معسكر الإنسانية ومؤيّديها، والمعسكر المناوئ الحافل بمجرمين ومتواطئين وسفّاحين لم تحفل الذاكرة الإنسانية بنظراء لهم، وحتى الخيال الإنساني لم يجرؤ يوماً على تصوّر إمكانية وجود أمثالهم في المجتمعات البشرية.
وفي سياق تداعيات معركة طوفان الأقصى ومخرجاتها الجليّة، حتى كتابة هذه السطور، ما زال معسكر الانبطاح والغيّ والظلام يناوئ ويستميت في درء ودحض حقيقة تقهقر وانهزام المعسكر الصهيو-أميركي، ويطلق العنان لترسانته الإعلامية الجبّارة لتشويه مشروعية المقاومة الفلسطينية وتضحياتها وإنجازاتها وانتصاراتها، ويفعّل وينشّط خلايا علماء السلاطين المتخمة والضالة والمُضلّة، في محاولة يائسة وبائسة منه، للتأثير على استفاقة الشعوب وإراداتها ووعيها الجمعي.
انتصرت المقاومة الفلسطينية المظفّرة، فقاتلت قتالاً لم تعهده الذاكرة الإنسانية من قبل، ودافعت دفاعاً أسطورياً عن المقدّسات الإسلامية والمسيحية على حد سواء، بل إنها حقّقت في سويعات قليلة ما فشلت الجيوش العربية مجتمعة في تحقيقه في 75 سنة، وصنعت نصراً إعجازياً سيقبع طويلاً في الذاكرة العربية.
والشواهد والدلائل على الانتصار الساحق والمدوّي للمقاومة الفلسطينية الباسلة جليّة للعيان ولا مجال للشك فيها، لا ينكرها أو يدحضها إلا معاند أو فاقد بصر وبصيرة، ولعل أهم تجلّياتها وعناوينها الرئيسية تكمن في الآتي:
أولاً: اختراق مجاهدي المقاومة القبة الحديدية والجدار الإسمنتي ذا المليار دولار، والذي تمّ تسويقه على أنه خط الدفاع الأقوى في التاريخ وخلاصة الإبداع التكنولوجي، وولوجهم إلى الداخل الفلسطيني المحتل، وتحريرهم 55 مغتصبة والسيطرة عليها لبضعة أيام، وقتلهم ما يزيد عن 1400 صهيوني دفعة واحدة، وأسرهم 250 صهيونياً جلّهم من الرتب العسكرية المختلفة.
ثانياً: حتى كتابة هذه السطور، تمكّنت المقاومة الباسلة من إعطاب ما يزيد عن 230 آلية ودبابة- والزيادة في اطراد مأهول- وفي مقدّمتهم فخر الصناعة العسكرية الصهيونية، دبابة الميركافا وناقلة النمر، إضافة إلى قتل ألف صهيوني في المعارك البرية على أقل تقدير.
ثالثاً: مشاهد جديدة وباعثة للأمل بدأت تشكّل جزءاً حيوياً في ذاكرة الإنسان العربي. إذ لم تتعوّد عيناه، وربما وللمرة الأولى من حيث زخمها، على رؤية تكدّس جثث مئات الجنود الصهاينة المترامية في الطرقات والأزقة والخربات وفي أنقاض المباني المهدّمة، إضافة إلى مئات الجثث المتفحّمة في بقايا الدبابات والآليات المعطوبة.
رابعاً: للمرة الأولى ومنذ اغتصاب فلسطين عام 1948، يتمّ تهجير قرابة ربع مليون من قطعان الصهاينة من شمال فلسطين المحتلة إلى الجنوب في منطقة النقب، ونصب خيام اللاجئين لهم.
خامساً: حالة الفزع والهلع غير المسبوقة بين قطعان الصهاينة، وفقدانهم لعامل الأمن والأمان والاستقرار، فالمقاومة الفلسطينية تدك الداخل الصهيوني بالصواريخ على مدار الساعة، وحزب الله يدك شمال فلسطين المحتلة بالصواريخ والمدفعية من دون انقطاع، والصواريخ والمسيّرات اليمنية تحيل خليج إيلات في جنوب فلسطين المحتل قطعة من جهنم.
سادساً: استعانة "جيش" الاحتلال الصهيوني بفرقة النخبة في الجيش الأميركي " دلتا" والمرتزقة الألمان والإسبان والأوكرانيين، والزج بهم في أتون الحرب البرية في صورة يائسة، تُظهر مدى عجز "جيش" الاحتلال الصهيوني وضعف عقيدة جنوده وانهيار معنوياتهم.
سابعاً: فشل قوات الاحتلال الصهيوني في تحقيق أيٍّ من بنك أهدافها، فلم تستطع، حتى كتابة هذه السطور، إلقاء القبض على قيادات المقاومة العسكرية أو جنودها الأشاوس، ولم تتمكّن من تحرير الأسرى، ولم تستطع تدمير أنفاق المقاومة، وكذلك لم تنجح في تهجير الشعب الفلسطيني في غزة إلى سيناء. وعلى النقيض من ذلك، فهي تعيش الأمرّين في حربها البرية، وتكابد خسائر فادحة في الجنود وأرتال الدبابات والآليات العسكرية.
ثامناً: تزايد الهجرة المعاكسة بين قطعان الصهاينة والتي تعتبرها جسّاً وإشكالية وجودية تهدّد المشروع الكولونيالي الاستيطاني للكيان الصهيوني، إذ بلغت هجرة الصهاينة إلى خارج الكيان الغاصب منذ اندلاع معركة الطوفان 300 ألف صهيوني، ومن المرجّح أن تبلغ الأعداد أرقاماً فلكيّة وغير مسبوقة بعد انتهاء المعركة وعودة معظم المطارات للخدمة.
تاسعاً: التصدّع الشديد الذي لم يسبق له مثيل داخل المجتمع الصهيوني، والخلافات الحادة بين المؤسسة العسكرية والحكومة، وانخفاض كبير وملحوظ في الثقة بين الرأي العام الصهيوني ومؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية، وتنامي ظاهرة رفض التطوّع في قوات الاحتياط والتي باتت تمسّ بالعصب الأساسي لجاهزية "جيش" الاحتلال وقدراته.
عاشراً: الفشل الاستخباري الذريع الذي منيت به أجهزة الموساد والاستخبارات العسكرية والشاباك، مما حذا بِـ "أهرون حليوة" رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية، و"رونين بار" رئيس جهاز الشاباك الاعتراف بالفشل وتحمّلهما المسؤولية في عدم إعطاء إنذار مسبق قبل هجوم الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر.
الحادي عشر: في سابقة من نوعها، شهد العالم تمرّد المؤسسات السيادية في أميركا على صانع القرار الأميركي، وذلك من خلال احتجاج ما يزيد عن 400 من كبار موظفي 40 دائرة حكومية، وتوجيههم رسالة للرئيس بايدن رافضين دعم إدارته غير المسبوق لحرب الإبادة التي تشنّها قوات الاحتلال الصهيوني.
الثاني عشر: تحوّل درامتيكيّ في تعاطي السياسة الأوروبية مع القضية الفلسطينية، إذ بدأنا نشهد في الآونة الأخيرة، مطالبة نواب وسياسيين في برلمانات المعسكر الغربي، الأوروبي والأميركي والأسترالي بوقف إطلاق النار، بل وتجرّؤهم في وصم ممارسات الكيان الصهيوني بالوحشية والإبادة الجماعية.
الثالث عشر: طرد الصهاينة والداعمين لهم من المحلات والمتاجر، بالتزامن مع مقاطعة البضائع والصناعات الداعمة للكيان الصهيوني في مختلف بقاع الأرض، واللافت للأنظار انتشار موجة المقاطعة لتشمل شريحة كبيرة من الشعب الأميركي.
الرابع عشر: شلل الاقتصاد الصهيوني ودخوله غرفة الإنعاش، إذ بلغت خسائر الاقتصاد الصهيوني حتى تاريخه قرابة 10 مليارات وخمسمئة مليون دولار، أي بواقع 250 مليون دولار يومياً، بحسب وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريش. (تناولنا الخسائر الاقتصادية في الكيان الصهيوني بشكل مفصّل في مقال سابق).
الخامس عشر: في خطوة غير مسبوقة وعلى امتداد محطات الصراع الفلسطيني الصهيوني، شاهد العالم أجمع وبأم عينيه مسارعة الإدارة الأميركية في إرسال حاملتي الطيران الأعظم في الأسطول البحري الأميركي وفرقاطة نووية أميركية إلى البحر الأبيض المتوسط، في خطوة استباقية لمساندة الكيان الصهيوني خشية انهياره.
ختاماً: على الرغم من تواطؤ معظم الأنظمة العربية وخذلانها للقضية الفلسطينية، وفي ظل الحصار الخانق الذي تفرضه دول الطوق على قطاع غزة والذي بدوره يقطع أي إمدادات لوجستية أو عسكرية للمقاومة، حقّقت المقاومة الفلسطينية الباسلة انتصارات عديدة، يأتي في مقدمتها، أنها استطاعت إرجاع القضية الفلسطينية إلى مركز العالم، واستطاعت أن تفشِل وإلى غير رجعة المخططات الشيطانية المراد تنفيذها في منطقة الشرق الأوسط، من حيث شقّ قناة بن غوريون، وإخلاء قطاع غزة والضفة الغربية بتهجير سكانهما إلى مناطق الجوار العربي، وإفشال تنفيذ الكيان الصهيوني لطموحاته في إنشاء ما يسمّى بـ "إسرائيل الكبرى".
ولعل أهم إنجازات معركة الطوفان: التأييد الأممي والشعبي غير المسبوق للقضية الفلسطينية بالتزامن مع السقوط المدوّي للبروباغندا والسردية الصهيونية في معظم بقاع العالم من جرّاء الإنجاز النوعي للشباب العربي، وانتصاره الملفت للنظر في معارك وسائل التواصل الاجتماعي، وتمكّنه من توضيح جذور وحقيقة الصراع الفلسطيني الصهيوني من جهة، ومن جهة أخرى توثيقه للجرائم والمجازر الصهيونية بحقّ المدنيين الأبرياء في قطاع غزة، لتسقط بذلك رواية أن الكيان الصهيوني "دولة" ديمقراطية، وأكذوبة تفوّق الجندي الصهيوني أخلاقياً، وبروباغندا مظلومية اليهود وفرضية دفاع الكيان الصهيوني عن نفسه إزاء الشعب الفلسطيني "البربري والهمجي" الذي يعيش من أجل هدف واحد لا غير: القضاء على "دولة إسرائيل" والتنكيل باليهود واستئصال شأفتهم.
-
نقلا عن : الميادين نت
في الثلاثاء 21 نوفمبر-تشرين الثاني 2023 11:48:26 م