|
كانت العقيدة العسكرية للكيان الزائل، والتي وضعها بن غوريون، تقوم على ثلاث ركائز أساسية: حرب صادمة، حرب سريعة، حرب على أرض العدو.
جاءت عملية طوفان الأقصى، في السابع من تشرين أول/أكتوبر، لتستنسخ ذات العقيدة ولكن بشكلٍ معكوس، فقد تعرض الكيان الزائل لضربةٍ صادمة ومفاجئة وضربةٍ سريعة وخاطفة وعلى الأرض المحتلة.
لذلك كان ردّ الفعل انتقاميًا ثأريًا يفتقد للعقل والحكمة، ثم أصبح الانتقام المفرط هو الهدف بحدّ ذاته، حتى تصل الرسالة لكل من يهمه الأمر، لا تتجرأوا على الكيان، وكل من يفعل سيلاقي الفعل ذاته في غزة، قتلٌ خارج نطاق الفعل الحربي، ومنفلت من كل الأخلاق والأعراف العسكرية والإنسانية. وكان ذلك واضحًا في تصريحات نتنياهو الموجهة إلى حزب الله، حين قال: "انظروا إلى غزة وخان يونس، هكذا سيكون مصير بيروت، في حال إقدام الحزب على الحرب".
وكان من الملاحظ أنّ كل السيناريوهات التي يتم تداولها لليوم التالي للحرب، هي عبارة عن افتراضٍ مسبق ومؤكد بهزيمة غزة وانسحاق حماس، وهذا غير أنّه يدل على إرباكٍ في الحال الصهيونية التي تسببت بها عملية السابع من تشرين أول/أكتوبر، فإنّها كذلك تدل على غلوٍ أمريكي في تقدير القوة العسكرية للكيان الزائل، والأرجح أنّ الكيان يئن لوقف الحرب، ولكن الرغبة الأمريكية تتعارض مع الأنين اليومي للكيان.
فقد أفشلت عملية طوفان الأقصى المخطط الأمريكي، والذي كان يهدف إلى الخروج من المنطقة للتفرغ لمقارعة روسيا والصين، ويتم ملء الفراغ الناتج عن هذا الخروج بحلفٍ"إسرائيليٍ" عربي، يكون الكيان هو صاحب السلطة فيه وعليه، وبالتالي استتباع المنطقة للمصالح الأمريكية لأجلٍ غير مسمى.
وهؤلاء العرب حاليًا هم ذاتهم، في العام 2006، الذين كانوا يستعجلون الكيان للقضاء على حزب الله في عدوان تموز، يستعجلون الآن الكيان للقضاء على حركات المقاومة في قطاع غزة. وهم شركاء في العدوان وليسوا مجرد متواطئين، وليس لديهم مانع إن كان هذا يتطلب تهجير سكان القطاع إلى سيناء ومنافٍ جديدة.
إنّ رفح، اليوم، وهي المدينة الملاصقة للحدود المصرية، تكدست بالنازحين الذين يعانون التشرد والعوّز، فقد كان سكان رفح قبل طوفان الأقصى نحو280 ألف نسمة، أما اليوم فقد أصبح تعدادهم 1.300.000 نسمة، وما يزال الناس يتدفقون على رفح كل ساعة، أيّ إنّ هذا الرقم يرتفع كل ساعة، فالشوارع مكتظة بالخيام، والمحلات فارغة من كل المواد الاستهلاكية، وما يُوزع على النازحين لا يكفي لسد الرمق، على سبيل المثال لا الحصر، عائلة مكونة من سبعة أفراد، تحصل على عبوة فول 400 غرام+ لتر ماء، كل يومين، أو زجاجة ماء مع عبوة بسكويت.
ومع الأجواء الماطرة والصقيع، تغرق الخيام بالماء، وتزداد معاناة الناس كل لحظة، كذلك حال القلق الدائمة مع اشتداد المعارك واستمرار القصف، تصبح الحال أمرًا لا يُطاق. وقد يرى بعض الشياطين أنّ هذه فرصة لا تعوض، حيث يصبح فتح كوة في الجدار الفاصل مع مصر هي الملاذ الأخير للناس للنجاة من هذا البؤس، القتل والخوف والجوع والبرد والعوّز.
وكما كان إغلاق المعبر وتشديد الحصار فعلًا وطنيًا وللحفاظ على الأمن القومي، يصبح السماح بتدفق النازحين إلى سيناء فعلًا إنسانيًا وأخلاقيًا، وكلاهما فعلٌ وضيعٌ في أرذل درجات الخيانة، فبعض العرب يحرمون غزة من مقومات الصمود، ثم يدفعونها للتهجير ويصورون الأمر التزامًا بالإنسانية والأخلاق والقوانين الدولية، إنهم كما قال مظفر النواب بالفعل يومًا "عربٌ عربٌ جدًا أولاد الكلبِ".
ولكن هذا السيناريو يتطلب أولًا القضاء على إرادة القتال، والقضاء على الجسم العسكري لكل حركات المقاومة ثانيًا، كما يتطلب ثالثًا تخلي محور المقاومة عن غزة وبالتالي انتظار دوره للذبح، وهذه مستحيلاتٌ ثلاثة، لا يمكن تحقيقها وإن أوتيت أمريكا عصا موسى.
إذ يدرك المحور أنّ العدوان على غزة ليس نهاية المعركة، بل بدايتها، وأنّ النجاح الأمريكي في تحقيق الأهداف في غزة، هي المقدمة الطبيعية لاستهداف كل عواصم المحور بالطريقة والأسلوب ذاتها، عبر سياسة الاستفراد والصدمة.
ولكن في غزة، هناك يقينٌ بأنّ هذه التضحيات لا يمكن إلّا أن تكون مفتاحًا للثبات والنصر، على كل المشاريع الأمريكية الصهيونية المعدّة للمنطقة وشعوبها، خصوصًا المقاومة منها، وأنّ غزة ليست وحيدةً في مجاهل هذا الكون، وأنّ من جعل منها قادرةً على مقارعة القوى العظمى، ليس بوارد تركها خاوية على عروشها، تنظر خلفها للطوفان على أنه آخر المسامير في نعش قضيتها.
إنّ طوفان الأقصى هو الاسم الكودي لزوال الكيان الزائل، ولن يكون غير ذلك، ولو جمعت أمريكا كل شياطين الأرض.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري
في الثلاثاء 12 ديسمبر-كانون الأول 2023 12:39:44 ص