|
استطاع نتنياهو، عبر سِنِيّ حكمه وسيطرته على حزب الليكود، أن يصبح القائد الأوحد لليمين الإسرائيلي، في كل توجهاته. وكل اتجاهات اليمين باتت تناقش هل ستكون جزءاً من حكومة بقيادة نتنياهو أم لن تشارك. وعلى رغم كل الانقسامات التي عصفت باليمين الإسرائيلي، والتي في أساسها خلافات شخصية مع نتنياهو، أو مع زوجته سارة نتنياهو، بدءاً بأفغيدور ليبرمان، مروراً بنفتالي بينت وجدعون ساعر وموشيه كحلون وبوغي يعلون، وليس انتهاءً بيوآف غالانت، فإن أياً من هؤلاء لم يفكر في أن يطرح نفسه بديلاً من نتنياهو، كمحور جديد يشكل حكومة، يتجمع حوله اليمين في "إسرائيل"، وخصوصاً حزب الليكود، بمعزل عن نتنياهو. وقد تكون هناك أسباب متعددة لذلك، أهمها:
أولاً، شخصية نتنياهو نفسها، والتي تمتلك قدرات هائلة من الفهم العميق للذهنية الإسرائيلية، كرستها خبرة الأعوام الطوال في الحلبة السياسية الإسرائيلية، بحيث يسجَّل لنتنياهو أنه قد يكون السياسي الوحيد في "إسرائيل"، والذي تم إقصاؤه عن منصب رئيس الوزراء مرتين (عام 1999م، وعام 2021م،) وعاد إلى كرسي رئاسة الوزراء من جديد، ناهيك بـ"مواهبه" الإعلامية، والتي يعزّزها تحدثه الإنكليزية بطلاقة، وحساسيته الهائلة تجاه استطلاعات الرأي الجماهيرية، ناهيك بتملّصه الدائم من المخاطرة في اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة، قد يُضطر إلى تحمل مسؤولية فشلها في المستقبل. أضف إلى ذلك علاقات قوية برأس المال اليهودي داخل "إسرائيل" وخارجها. كل ذلك جعل نتنياهو شخصية قوية سياسياً، ولا يمكن لأي بديل تجاوزها بسهولة.
ثانياً، الظرف السياسي الإسرائيلي الداخلي لم يكن متهيِّئاً لإيجاد كتلة سياسية يمينية جديدة من خارج حزب الليكود، تكون بديلة من نتنياهو والليكود، لأنه في حال تم ذلك، ستنقسم أصوات اليمين الإسرائيلي، ولن يتمكن هذا اليمين من تشكيل حكومة أو البقاء في سدة الحكم. وهنا سيُنظر إلى هذه الكتلة على أنها المسؤولة عن حكم اليمين الإسرائيلي، الأمر الذي حدث في حكومة ناتالي بينيت بالشراكة مع يائير لابيد، والتي صمدت أربعة عشر شهراً فقط.
ثالثاً، حزب الليكود، وقدرة نتنياهو وفريقه على الهيمنة على مراكز القوة المؤثرة داخل الحزب، ووأد أي محاولة لظهور "قائد" كاريزماتي ينافس نتنياهو من الداخل. وهذا حدث مع تيار موشي فيغلن، الذي نافس نتنياهو في رئاسة حزب الليكود في انتخابات الليكود الداخلية، وشكل تياراً من المستوطنين الدينيين داخل الليكود، أطلق عليه آنذاك تيار "الفيغليين"، للاستيلاء على الليكود.
وهذا حدث مع موشيه كحلون، بعد أن ارتفعت أسهمه بعد نجاحه كوزير للاتصالات في تخفيض أسعار اتصالات الأجهزة الخلوية، فيما عُرف بثورة كحلون للاتصالات آنذاك. أضف إلى ذلك نجاح نتنياهو في تشريع قانون في الكنيست يمنع الجنرالات، وخصوصاً رؤساء أركان "الجيش"، وجهاز الشاباك، وجهاز الموساد، من الانخراط في الحياة السياسية والترشح للكنيست، لفترة أربعة أعوام منذ لحظة تركهم مناصبهم، فيما يُعرف بقانون "الانتظار".
رابعاً، وجود خلافات شخصية وأيديولوجية وسياسية بين منافسي نتنياهو، يغلب عليها روح الأنا المصلحية، الأمر الذي يجعل توحدهم في كتلة سياسية يمينية قوية قادرة على التحالف، فيما بينها، أو مع أحزاب الوسط لتشكيل حكومة مستقرة تُبعد نتنياهو عن الحكم، أمراً مشكوكاً فيه.
لكن، بعد فشل نتنياهو الكارثي في منع عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وطريقة إدارته الحرب على غزة، والمليئة بالإشكالات، والحسابات السياسية الشخصية، وقبل ذلك قضية "الثورة القضائية" والانقسامات الحادة التي سببتها حكومة نتنياهو داخل الشارع الإسرائيلي، والتي ستجد، بصورة مؤكَّدة، أي لجنة تحقيق بشأن فشل السابع من أكتوبر، رابطاً قوياً بينها وبين عملية طوفان الاقصى، باتت هناك أصوات كبيرة داخل اليمين الإسرائيلي، وخصوصاً من التيار اليميني العلماني، وحتى من قلب ناخبي حزب الليكود نفسه، تشعر بأنها في أزمة لا تعلم لمن تمنح صوتها الانتخابي.
فمن جهة، هم لا يريدون نتنياهو الفاشل، ومن جهة أخرى يبحثون عن بديل يميني يستمر في دعم أجندتهم السياسية اليمينية، من خلال بقاء اليمين في قيادة الحكومة الإسرائيلية. وفي المحصِّلة، بات هناك فراغ حزبي داخل معسكر اليمين الإسرائيلي، يبحث عن قيادة جديدة تملأه.
وباتت هناك شخصيات من المعسكر اليميني تُطرح أسماؤها كقيادات مقترحة لليمين، سواء بصورة فردية، أو من خلال تشكيل تكتل حزبي أو انتخابي مشترك فيما بينها. من أهمها:
يوسي كوهين، رئيس الموساد السابق، والذي كان من المقربين إلى نتنياهو حتى فترة قريبة، ومن الواضح أنه يبحث عن دور سياسي في الانتخابات المقبلة.
نفتالي بينيت، رئيس الوزراء السابق، والذي بدأ يجهّز نفسه للعودة إلى الحياة السياسية، في ضوء التغيرات الجديدة في المشهد السياسي الإسرائيلي. وبالتأكيد، فإن آييلت شاكيد، وزيرة "القضاء" السابقة، وشريكته في مسيرته الحزبية، تقوم بالدور ذاته.
جدعون ساعر، رئيس حزب الأمل الجديد، وشريك بيني غانتس في كتلة المعسكر الرسمي، والذي بات يقترب أكثر وأكثر إلى مواقف حزب الليكود، ويبتعد عن غانتس، أملاً في أن يجد له مساحة في مستقبل قيادة الليكود بعد نتنياهو.
نيير بركات، وزير الاقتصاد في حكومة نتنياهو الحالية، والذي أظهر في أكثر من مناسبة رغبته في خلافة نتنياهو في حزب الليكود.
وهناك آخرون من المعسكر اليميني، أمثال موشي فيغلن، الذي بدأ تقريباً حملته الانتخابية من خلال استئجار مستشارين لها، واستعادة بناء حزبه، "الهوية"، والذي تركه بعد انضمامه إلى حزب الليكود.
وهناك تحضير لكتلة انتخابية، كتلة "القوة 14"، المرتكزة على مجموعة من الأسماء المشهورة في القناة التلفزيونية اليمينية المشهورة، القناة الـ"14"، بالإضافة إلى مجموعة من العسكريين من ذوي التوجهات اليمينية، بقيادة أمير أفيفي.
من الجدير بالإشارة، أن هذا الحراك السياسي داخل معسكر اليمين الإسرائيلي، والذي يشير إلى انقسامات داخله، يزيد في احتمال فقدان اليمين قدرته على تشكيل الحكومة الإسرائيلية في الانتخابات المقبلة، بحسب ما تشير استطلاعات الرأي الإسرائيلية حالياً. وإذا أُضيفت إلى ذلك أسباب موضوعية تتعلق بالحراك السياسي والمجتمع داخل "إسرائيل"، نتيجة حرب غزة، فسوف يزداد احتمال خسارة اليمين قوته الانتخابية، أبرزها:
1. ولادة كتلة انتخابية جديدة في "إسرائيل"، عمودها الفقري جنود الاحتياط، الذين أظهروا نوعاً من التكتل الجماهيري في أثناء المعارضة للـ"ثورة القضائية" من جانب حكومة نتنياهو. والأمر سيزداد بعد مشاركتهم في الحرب على غزة، وتحمل كامل تبعاتها، سواء على المستوى الشخصي أو العائلي أو الاقتصادي، في وقت لم يتحمل التيار الحريدي أياً من تلك التبعات، الأمر الذي سيضع قضية علاقة الدين بـ"الدولة"، وقضية تجنيد الحريديم، وقضية الأموال الائتلافية، وخصوصاً للمؤسسات التعليمية الحريدية، كقضايا مركزية في الانتخابات المقبلة، وهو الأمر الذي سيقلل الفرص الانتخابية لليمين الإسرائيلي، الذي يعتمد على الحريديم كشركاء طبيعيين له في تشكيل حكوماته.
2. في حال حدثت الانتخابات خلال العام المتبقي لإدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أو في حال نجح بايدن في ولاية جديدة، ستكون الرؤية الأميركية الواسعة لترتيب الحلف الصهيو- عربي في الشرق الأوسط بعد حرب غزة، وفي جوهرها "حل الدولتين"، كأولوية في الأجندة الانتخابية الإسرائيلية، والتي ستكون فرصة سانحة من أجل زيادة قوة أحزاب الوسط وما تبقى من يسار إسرائيلي، انتخابياً، وخصوصاً مع إدراك الكل الإسرائيلي مدى ارتباط أمن "إسرائيل" بالدعم الأميركي لها في ضوء حرب غزة.
في المحصِّلة، مستقبل نتنياهو محفوف بالمخاطر بعد حرب غزة، لكن هذه المرة ليس مستقبله وحده، وإنما مستقبل اليمين الإسرائيلي برمته.
* نقلا عن :الميادين نت
في الجمعة 26 يناير-كانون الثاني 2024 12:23:18 ص