"طوفان الأقصى" والحرب المستمرة
الجبهة الثقافية
الجبهة الثقافية

أحمد الدرزي*

تعاطى "المجتمع" الإسرائيلي مع معركة "طوفان الأقصى" بشكل مختلف عن كل حروبه التي خاضها منذ عام 1948، فقد وجد نفسه منذ الساعات الأولى بحالة صدمة، إدراكاً منه بأن كل شيء يتحطم، بعدما تهشمت صورة جيشه بشكل لا يمكن تخيلها، وهو عماد بقاء كيانه، ما دفع الغالبية العظمى من المستوطنين بما يتجاوز 95% منهم إلى تبني أكثر الدعوات تطرفاً في التعاطي مع حركة حماس وأهل غزة من مبدأ أنهم يخوضون حرب الوجود للمرة الأولى.

لم يتغير وضع "المجتمع" الإسرائيلي كثيراً بعد مضي أكثر من 100 يوم من الحرب، فهو يعيش حالة من اليأس، وفقاً لما كتبه آرثر غرين في صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، متسائلاً: "هل فات الأوان لإنقاذ دولة إسرائيل من خصومها ومن نفسها؟ الجواب ليس واضحاً".

ويتابع: "لكنَّ الإسرائيليين غير مستعدين أيضاً للإجابة عن سؤال مهم آخر: ماذا يفترض بنا أن نعمل الآن؟ إذ إن أكثر ما يخيفهم هو أن حماس ستبيدهم". ووفقاً لهذا الوصف، فإن هذا المجتمع الخائف سيبقى متبنياً في الأشهر القادمة مقولة بنيامين نتنياهو بأن "الحل الوحيد هو جز العشب".

في المقابل، كان هناك محور المقاومة الذي أدرك من اللحظة الأولى أن ردود الفعل الوجودية الإسرائيلية والأميركية لن تكون اعتيادية، فكلا الطرفين الإسرائيلي والأميركي لا يمكن الفصل بينهما بعدما تحول الكيان الوظيفي إلى جزء أساسي من بنية النظام الغربي، وخصوصاً الولايات المتحدة التي أطلقت مشروع بناء هذا الكيان عام 1917، بعدما أوعز الرئيس الأميركي ودرو ويلسون للبريطانيين بقبوله إعطاء "وعد بلفور"، فتحول الوعد إلى "دولة" هي الجزء الاختباري المتقدم لبقاء النظام الغربي المهيمن.

كان لا بد للمحور الآنف الذكر من أن يتعاطى مع الردود الإسرائيلية الأميركية من مبدأ حفظ الوجود والمحافظة على المكتسبات التي تحققت خلال أكثر من 4 عقود من المواجهة العسكرية.

أدرك الأميركيون والإسرائيليون بعد مرور أكثر من 100 يوم من المواجهات العسكرية في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والعراق أن احتمالات تحقيق انتصار في الحرب قريباً غير ممكنة، والولايات المتحدة لا تختلف حقيقةً في موقفها عن الحكومة الإسرائيلية من ناحية الهدف من الحرب واستمرارها، إنما الخلاف هو حول كيفية إدارتها وعدم توسعها نحو انفجار إقليمي غير مضمون النتائج.

لذلك، لا بد من الانتقال إلى حرب مديدة منخفضة الوتيرة والكلفة تضمن تحقيق المصالح الأميركية والإسرائيلية بالانتقال إلى ما تسميه المرحلة الثالثة من الحرب في نهاية شهر كانون الثاني/يناير.

الانتقال إلى المرحلة الثالثة الذي تعمل عليه الإدارة الأميركية ليس سوى نتيجة العجز عن تحقيق الأهداف التي وضعها الكيان لنفسه بضمانة أميركية في غزة عبر الاجتياح البري، وتعاظم خسائره البشرية الكبيرة وما رافق ذلك من تدمير عدد كبير من الآليات والمدرعات والدبابات التي لم يشهدها في كل حروبه، والاستمرار بالحرب البعيدة التي تخفف كثيراً من خسائره، وتخفف عنه الضغوط الدولية بعد المرافعة التي قدمتها جنوب أفريقيا المتعلقة بسياسة الإبادة الجماعية التي اتبعها في غزة، وتدفع وفقاً لعرض آموس هوكستين بالانتقال إلى المرحلة الثالثة مقابل إيقاف حزب الله هجماته على شمال فلسطين المحتلة وعودة المستوطنين إلى الشمال.

من الدلائل المهمّة على استمرار الحرب في الأشهر القادمة هو استمرار السياسات الغربية في إدارة معاركها في سوريا ولبنان والعراق واليمن في صبّ اهتمام دول الاتحاد الأوروبي في لبنان على مسألتين هما تأمين حدود فلسطين الشمالية ومنع عودة النازحين السوريين من لبنان إلى سوريا، رغم عجز بلدهم عن إمكانية استيعابهم وتوفير مستلزمات الحياة الأساسية، بما يؤكد استمرار الحرب في سوريا بأشكال مختلفة، واستمرار العمل على تغيير البنية السكانية اللبنانية بما يخدم الأمن الإسرائيلي، إضافةً إلى إعادة وضع أنصار الله في اليمن ضمن التنظيمات الإرهابية وضرب قادة الحشد الشعبي في العراق.

وفي الوقت نفسه، يدرك محور المقاومة منذ بداية معركة "طوفان الأقصى" أن حربه طويلة جداً، وهذه هي المرحلة الفاصلة من الاستعدادات المديدة عبر عقود من بناء القدرات العسكرية المتوسعة في مراكز الارتكاز الأساسية لغرب آسيا، بما يشمل شرق المتوسط والخليج، إضافةً إلى الممرات البحرية والمضائق المهمة في التجارة العالمية، وهو يقود معاركه اليومية على هذا الأساس، بما يمنع من انفجار حرب إقليمية واسعة يمكنها أن تتدحرج إلى حرب عالمية ثالثة مفتوحة، مع ضرورات التصعيد المتناسب مع التصعيد الغربي عسكرياً ورسم حدود سياسات الردع.

من هنا، تأتي أهمية القصف الصاروخي لحرس الثورة الإيراني لقواعد إرهابية وللموساد الإسرائيلي في العراق وسوريا وباكستان، والإعلان عن مسؤوليته عن ضرب سفينتين إسرائيليتين، كرسائل متعددة الاتجاهات لكل الأطراف الإقليمية والدولية، وفحواها أنه لا يمكن لأحد أن يعبث ببنيتنا الداخلية من دون أثمان باهظة، ولا أن يتجاوزنا مع شركائنا من قوى المقاومة في رسم الخرائط الجيوسياسية القادمة بعد الحرب الكبرى في غزة، بعدما أثبتنا أن لنا اليد العليا في غرب آسيا، وأننا قادرون على التحكم في أهم ممرات بحرية في العالم، ولدينا الإمكانات العسكرية الرادعة لمن يفكر في ذلك.

أغلب المؤشرات تشير إلى أنَّ الحرب سوف تستمر عام 2024، رغم ما يتسرب عن محاولات أميركية لإجراء تسوية إقليمية واسعة كملف واحد، بما في ذلك سوريا التي سيسمح لها باستعادة شمال غربها وشمال شرقها، إضافة إلى السويداء، في مقابل تأمين بقاء "إسرائيل" بعنوان "السلام"، وهذا غير ممكن تحقيقه ببقاء وجود هذا الكيان الذي أُقيم على أسس ظالمة لأهل فلسطين والمنطقة عموماً، والذي يعني بقاؤه استمرار العبث الغربي بين شعوب المنطقة.

* نقلا عن :الميادين نت


في الجمعة 26 يناير-كانون الثاني 2024 12:35:07 ص

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=12268