المفارقة والظلال في «ألف ليلى وليلى» للشاعر صلاح الدكاك
د.محمد النهاري
د.محمد النهاري
بدهي أن يكون قدماء النقاد والبلاغيين العرب قد وافقوا بعضهم بعضاً أن لغة الشعر لغة تعبر عن العواطف والمشاعر، ولذلك -وبالضرورة- سوف تعبر بلغة أخرى تميل إلى الانزياح والعدول الذي وقف عنده ناقد بديع هو عبدالقاهر الجرجاني في كتابيه المصدرين: "دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة".
ولسنا في مجال الدعوى الذاهبة إلى القول بأن البلاغيين والنقاد العرب كانوا مصادر البلاغيين والنقاد الأجانب، فهذا يبدو لي أنه غمط للحقيقة، ليس لأننا نقر بتثاقف المعرفة بجانبيها التطبيقي والنظري وحسب، ولكن لأن اللغة الأدبية أو اللغة الشاعرة -بحسب العقاد- هي رؤية عاطفية تثير مشاعر ووجدان كل منالتعريف:
تعني المفارقة إحداث انفعال عن طريق الإيحاء التعبيري المخالف لنمطية اللغة التداولية، وفي القرآن الكريم قوله تعالى: "وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" (النحل: 59) فالبشارة لا تكون إلا بما يسر وليس العكس. وتظهر المفارقة من خلال المخالفة بواسطة أسلوب التهكم والسخرية، يقول المعلم للطالب الذي تأخر عن الحضور: "بدري؟!"، ويقول الضابط للجندي الكسول: "بعدي بالرجال"، وتقول الحماة لزوجة ابنها التي اسود وجهها من كثرة السخام: "شلّوك يا قمر الصّعد"، وقمر الصعد هو إناء الفخار الذي اكتسب السواد من كثرة الاستعمال حتى أصبح غاية في السواد! ويقال للجنود الجبناء: "المتقدمون إلى الخلف"!
وقد تأتي المفارقة عن طريق التعبير العكسي كما في الأداء الجنْسي الذي يستعيضه "الآيروتيك" بالقتل تعبيراً عن فشل الأداء، فإن "ألف ليلى وليلى" يعبر عن رؤية جمالية صادرة عن مُوْحِيَاتِ "ليلى" فتنة الشعر العذري لصاحبها الحصري "قيس" والذي يصبح "ثيمة" شعرية تمتح من التراث الذي تمثله العفة بأقصى معانيها.
بداية نشير إلى عنوان قصيدة للبردوني يصف بها مجزرة علي صالح في الناصريين (أحداث 78) "الصاعدون من دمائهم"! وكقول أبي تمام في أبطال فتح "عمورية":
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في
مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وكمثال القلب المكاني في عنوان الشاعر الشاب صلاح الدكاك: ألف ليلى وليلى قلب لرواية "ألف ليلة وليلة"، فالعنوان الأخير تسمية للرواية العربية التي قصت حكاية هذا السيد المريض الذي يذبح فتاة على مذبح البكارة بعد قضاء صبوته منها، والعنوان الثاني حكاية متخيلة لعاشق محب في اكتشاف أميرة من أميرات الجمال يقضي معهن ليالي ماتعة ساحرة، وليس آخراً شعر المتنبي في مدح سيف الدولة يصف جنود الروم الأسرى:
أتوك يجرون الحديد كأنهم
سروا بجيادٍ وما لهن قوادمُ
تتشكل الصياغة الفنية في شعر صلاح الدكاك من أنسجة كثر تظهر شبكة علاقات داخل النص الواحد.
وإذا كان الناقد الفرنسي الكبير "لانسون" وصل إلى تعريف للأدب ظنه أنسب تعريف بأن "الأدب ظلال ومفارقة" فإن الظلال هنا ما يوحيها عنوان صلاح "ألف ليلى وليلى" ملغّمة بكثير من الظلال التي لو انفجرت لاستطاعت أن تضيء مشاعر النجوم ولسنا نريد أن نوازن بين صنيع "لانسون" وناقد عربي قديم "قدامة بن جعفر (260-327هـ)" في كتابه الموسوم بـ"نقد الشعر"، ملامساً واحداً من تمثيلات "الظلال" وهو مصطلح "التمثيل" أو المتشابهة، "وهو أن يريد الشاعر إشارة إلى معنى فيضع كلاماً يدل على معنى آخر وذلك المعنى الآخر والكلام ينبئان عما أراد أن يشير إليه" (نقد الشعر، ص160) فإن "ألف ليلة وليلة" قصة خضعت للتحريف والتحوير يمثل من وجهة نظري دفتر "المراسيم" الذي يسجل فيه الوجهاء انطباعاتهم عن مناسبة ما، فحتى الآن لا يعرف تاريخ الأدب على وجه التحديد من كتب هذه القصة أو الرواية، فهي ضمن الموروث الشعبي الذي لا يعرف من دوّن هذه القصة أو الرواية!
شبكة علاقات:
النص الأدبي عبارة عن شبكة من العلاقات، ولقد سبق أن ذهب ابن خلدون (1323-1406م) إلى أن الأسلوب عبارة عن النسج (Text) الذي أداته المنوال. وبناءً على هذا فإن من مقومات النص الأدبي الناجح هو القيام بنسج شبكة علاقات تمثل ضوى (معالم) واضحة تضيء النص، وتلزم الكاتب أو الشاعر أن يكون مسؤولاً أمام نفسه أولاً وأمام النص ثانياً وأمام القارئ ثالثاً.
ثلاث ظلالات يتوزعها نسيج النص/ العنوان:
أ. الإسقاط النفسي، وهو جملة من الحيل التي يلجأ إليها الإنسان ليدفع عن نفسه كثيراً من المخاوف التي تصدر عن الوضوح المؤذي، ولأسباب اجتماعية وسياسية يبرز عنوان الإسقاط النفسي كعلامة بارزة وملمح من ملامح التناص التراثي الشائع، فلقد اتخذ معاقرو الخمر من الشعراء المسرفين في وصف الخمر من عصور كثيرة أبا نواس شمّاعة إسقاط نفسي كي يبوء وحده بالإثم لترويجه هذا الشراب المعصية!
ومازالت هناك شخصيات تحمل عبء أو وزر الآخر حين يواجه ما يسببه الوضوح من مواجهة مع مستبد، فعلى سبيل المثال في اليمن شخص اسمه علي ولد زايد عبارة عن فكرة زراعية يعتمدها الفلاحون اليمنيون لتحديد معالم الزراعة في البذر والحصاد ويمثل مرجعاً في الحكم والأمثال، فلما كثر إسراف "جباة" الضرائب في الاختلاس ونهب التجار وغيرهم من الفئات الأخرى، حضر علي ولد زايد حين غابت الشجاعة الأدبية لتواجه فساد "الجباة" يقول علي ولد زايد: "ما يرقع الفقر جابر إلا عمل بالجمارك أو العمل بالضرائب".
وإذ يكون عنوان الديوان -كما يلاحظ عند شعراء كبار كالشاعر البردوني ونزار قباني والبياتي وغسان كنفاني وعبدالرزاق عبدالواحد... الخ- فإن صلاح أحد هؤلاء الذين يقتنصون شاعرية القصائد من عنواناتها "ألف ليلى وليلى" لتفجر الدلالة من خلال ما يشي به العنوان من سيماءات كثر كسيماء التاريخ الذي يستدعي الإشارة إلى حدث بعينه، شكل عبر المكان والزمان دلالة حصرية ليصنع مفارقة تقوم على التكثيف الذي هو بعض تعريفات البلاغة ومن سمات الشعر البديع، فالمفارقة التي هي ظلال المعنى عند سيد قطب وعبدالقاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" وعند علي الجرجاني في "الوساطة بين المتنبي وخصومه" هي استدعاء بالمقلوب عند الدكاك تعبر عن جمالية خاصة، فإذا كان عنوان "ألف ليلة وليلة" التي تنسب لمؤلفين كثر جعلوا من الرواية الشعبية تراثاً ليس منسوباً لمؤلف واحد يشي بدراما مأساوية تعبر عن الشبق الجنسي المرضي الصادر عن عجز في الأداء كما أسلفنا. الملقي والمتلقي، فلا يسع أياً من الذين يهتمون بالعواطف والمشاعر، إلّا أن يتثاقفوا ويتبادلوا التجربة مهما تباعد الزمن.
يقترب مصطلح "المفارقة" من مصطلح "العدول" أو الانحراف أو الخروج عن "التداولية". أما الظلال فهو الغلالة الشفيفة التي تنبثق من صلب التجربة الإبداعية فتمثل مفهوم هذه التجربة أو هي النور الذي ينبثق من ثنايا العمل الأدبي بأجناسه المختلفة، مسرحية، قصيدة، قصة، مقالة، سيرة ذاتية.
وإذا كانت المفارقة في معجم التجربة هي المخالفة لما هو نمطي ودارج ومألوف، فإن الظلال هي فقه التجربة قد تدرك من خلال القراءة الثانية التي تقوم على التأويل غالباً!
يقول صلاح في قصيدة:
"ليلى.. قاب قيسين ونصر"
قبل أن يقول الشاعر، يقول القارئ إن للثورية والظلال هنا ظهورا واضحا وفاعلا، فليلى "فتاة" ليلة هي المورى عنها بالمناضلة الفلسطينية ليلى خالد، عضو منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة أشهر كوفية بعد قتيل الصهيونية الإماراتية ياسر عرفات، ويستمد الظلال حضوره في المثل القرآني الذي يعتمره صلاح في كثير من قصائده: "قاب قوسين أو أدنى" لتتداخل الظلال والمفارقة بين قيس صاحب ليلى وقيس المفترض ليكونا نصراً... يقول الشاعر:
لَيْلَى...
والأحرارُ بِكُلِّ العَالمِ قَيْسٌ
والثَّوراتُ قَصَائدْ
تَتَبتَّلُ عَيْنَيكِ الوَاسِعَتَيْنِ كدَمعَةِ "حَيْفا"،
الدَّامِعتَينِ كمِفتاحِ العَوْدَةِ
والمُشْرِقَتَيْنِ كرَشَّاشِ فِدَائيٍّ عَائدْ
... لَا قِصَّةَ حُبٍّ خَالِدةً في تَارِيخِ العِشْقِ العَرَبِيِّ سِواكِ،
ولا حُبَّ سِوَى حُبِّكِ خَالِدْ
وَقَّعَ بالجَبْهَةِ فَوقَ جَبِيْنِ الشَّمْسِ وَصِيَّتَهُ للجِيْلِ الصَّاعِدْ:
حُبٌّ لا يَحبَلُ بالثُّوْرَاتِ
ولا يَتَوَحَّمُ أَنْفَاسَ الشُّهَداءِ
وأَشْوَاقَ الأَسْرَى
وعَذابَاتِ المَقْهُورِينَ بِكُلِّ الكَوْكَب... حُبٌّ بَائدْ
ظلال وفيرة تنبثق من كل سطر شعري في القصيدة على أننا نلاحظ أن النغم الموسيقي يشكل أهم شبكة علاقات النصوص في قصائد "ألف ليلى وليلى" غير أن الرمز يمتاز بتكثيف إشاري واسع الدلالة والسيدة العذراء عليها السلام يخذلها المنطق فلا تستطيع الكلام وإنما أشارت إلى الوليد الطري "قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إني عبدالله...". وسيدنا زكريا عليه السلام لأيام استغنى بالرمز عن الكلام.
لقد يكون مناسباً أن نشير إلى أن العنوان "ألف ليلى وليلى" وهو عنوان رمزي في الأساس كل قصائد الديوان من خلال مفارقات رمزية تزدحم بلغة جديدة وأصيلة ويكاد الشاعر يتوارى لتحل اللغة محله:
يا نَهْدَها في ثَوبِها الفِضِّيْ
يا بَعْضَها يقضي على بَعْضيْ
تُفّاحةٌ بالعِطرِ تَرْشُقُني
وتُثيرُ فِيَّ غَرِيزةَ العَضِّ
لُغمٌ مِنَ الرَّغَبَاتِ مُعْتَقَلٌ
في قَبْضَةٍ حَجَريَّةِ الرَّفْضِ
مُهْرٌ يُمَزِّقُ سَرْجَ آسِرِهِ
شَوْقاً إلى حُرِّيَّةِ الرَّكْضِ
يا نَهْدَها تَشْكُو لِمَنْ؟! ولِمَنْ
أشْكُو؟! لِمَنْ تُفْضي؟! لِمَنْ أُفْضي؟!
في الأَسْرِ أنتَ، وفي الإسَارِ أنا
ذَبُلَتْ زُهورُ شَبابِنا الغَضِّ
الرمز حر واضح وهو أن "ألف ليلى وليلى" في الطريق، وقبل أن أغادر هذه الأجواء لا بد أن يعلن الشاعر قفله السري ويفضح هذا الرمز على رؤوس الشعراء والنقاد:
يا نَهْدَها سَتَجيءُ أزْمِنةٌ
للحُبِّ تَغْسِلُنا مِنَ البُغْضِ
سَيَجيءُ يومٌ عن رَغَائِبِنا
نَمْحو خُطوطَ الطُّولِ والعَرْضِ
ليس النهد في ثوبها الفضي واللغم المعتقل والمهر الذي يمزق سرجه إلا رموزاً تبشر بالثورة.
وبعدين "يا صلاح" بدري!
تتنفس قصائد "ألف ليلى وليلى" أنفاس بني عنترة وبني أبي نواس وبني المهجر شماله وجنوبه وبني المتنبي وبني قباني ودرويش.
وليس آخراً، كنت قد أشرت أول الحديث إلى أن شبكة علاقات تنسج شعر صلاح الدكاك، ولما لم يتسع المقام لسردها، هنا أشير إلى واحد منها وهي تعالق الأزمنة، إذ يرتبط المستقبل بالحاضر والماضي -إن كان قد وجد- من زمن بعيد.
إن قصيدة "ألف ليلى وليلى" مفعمة بموسيقى ينتجها ما يسميه العروضيون رد الأعجاز على الصدور والمقابلات الضدية ليتجلى الإسقاط في أبهى معنى تنتجه أفكار رئيسية وأخرى ثانوية، فالفكرة أو المعطى الرئيس لهذه المئات من الليالي هي الفقد والأمنيات الكسيرة:
هَلْ إلى سَلْسَبِيلِ وَصْلٍ سَبِيلُ
لِعَلِيْلٍ أَمَضَّهُ التَّعْلِيْلُ؟!
أَظْمَأتْنِي بِكِ الوُعُودُ مِطَالاً
ولَكَمْ أخْلَفَ الرُّعُودَ الهُطُولُ
عَيْنُ سُهْدٍ تَهيمُ في عَيْنِ غَافٍ
طَرْفُهُ مِنْ سُهادِها مَكْحُولُ
ويتضح هذا الإسقاط أكثر في هذه المفارقة:
أشْتَكِي ما اشْتَكَى المُحِبُّونَ قَبْلِي
غَيْرَ أنِّي لِكُلِّ بَعْدٍ دَلِيْلُ
تتحمل ليلى بعداً إسقاطياً يعبر عن أمل لا يتحقق، ولكنه لا يضيع:
كلُّ لَيْلَى مَضَتْ ولَيْلَى سَتَأْتِي
أَنَا في الحُبِّ قَيْسُها المَتْبُولُ
ولا يتحقق هذا الإسقاط في البعد التاريخي وحسب، ولكن في هذا التضاد الفارق بين ظمأ قاتل وأنهار تسيل لا تفتأ هذا الظمأ المخيف:
ظامِئٌ والكُؤُوسُ تَجْرِي دِهَاقاً
في فُؤَادِي ولِي فُرَاتٌ ونِيْلُ
ألا يرى القارئ الكريم تناصاً بين صلاح والخيام؟!
يا رب هل يرضيك هذا الظمأ
والماء ينساب أمامي زلالْ
وإذا كان "العدول" من سمات اللغة الشاعرة بحسب عبدالقاهر من القديم والعقاد من الحديث، فلنا أن ننظر في هذا النص:
في شِفاهِي نَواهِدُ المُزْنِ تَهْمِي
ودَمُ الكَرْمِ في دِمائي يَسِيلُ
وعلى الرُّوحِ حيْثُ يَمَّمْتُ رَاحٌ
مِنْ رُمُوشِ النّدَى وظِلٌّ ظَلِيلُ
إنَّما يا "مَدَارِبَ السَّيْلِ قُولِي..."
كيفَ لا يَرْتَوِي بِرُوحِي "الفُضُولُ"؟!
قد أذهب فأقول إن المعرفة بالشاعر أو المبدع في أي مجال تؤكد ما يوحي به الإسقاط من دلالة، وصلاح لم يتخلف يوماً من بداية رشده عن أمل طويل عريض بحجم الوطن، فالإسقاط في هذا النص يعبر عن ثورة لا تخمدها الأنهار ولا الأمطار، وإذا كان كون المطر كون الماء لا يطفئ ظمأ عبدالله الفضول، فالدكاك ضامن أن يروى الفضول، فلا يظمأ أبدا.
ب. الرمز... يذهب علماء اللغة من القديم والحديث فيقررون أن اللغة عبارة عن رموز ترسم فتلفظ.
وليس آخراً:
فإن في عنوان "ألف ليلى وليلى" أكثر من عنوان سيدركه لا شك من يقدر لغة جديدة يتفيأ ظلالها الناقد الحصيف الذي سيتأمل بنشوة شاعرة كيف استطاع هذا الشاعر الشاب أن يحلق في سماوات لا متناهية من ألق الضوء الإبداعي الرحيب.
 

* نقلا عن : لا ميديا


في الثلاثاء 05 مارس - آذار 2024 10:50:00 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=12811