|
نزف غزة المستعر بالجوع والحرب والصمود، في قلب أمة الإسلام الراعف، كحروف شهر رمضان وموقعه من هذا الدين، دين لا يتكامل في سلوك المسلم وعقله وقلبه، إلا بتكامل الأركان والفرائض والقيم والشرائع، في منظومة إنسانية ربانية جوهرها ذلك التوجيه النبوي الصارم «مَا آمَنَ بِي مَنْ أَمْسَى وَهُوَ شَبْعَانُ وَجَارُهُ جَائِعٌ».
وجوع غزة في حربها نيابة عن أمة المليار ونصف المليار، إذ يُسقط عن أهلها وجوب الصيام، لما هو أولوية القتال والثبات تحت القصف والتجويع والتشريد، وهم في صيام خضر عدنان الدائم للشهر السادس على التوالي.
جوعُ رمضان الغزّي، لم تلامسه ماكينة الفتاوي الفقهية المعاصرة، وعجزت عنه موائد الفقه على المذاهب التسعة، منذ تاه العقل الإسلامي في (الفقه الأَرَأَيْتِيّ) في خضم الترف الفكري، وهو يصطنع الأسئلة، بعد أن تصدى لما هو مسموح به من القضايا وفق مزاج السلطان: أرأيت لو صلّى مسلم وهو يحمل على ظهره كيس فُساء، أجلّكم الله، هل تصح صلاته؟
ومنذ ما قبل هذا الترف الفقهي، وما بعده، هل يتخيل عقلنا الموسوعيّ في أعظم تجلياته الحنفية، بعيداً عن تكلساته السلفية، تَحوّل الأمة الرمضانية إلى جثة صائمة عن جوهر الصيام، إلا ما رحم الله من مرابض ثلاثة لا يعزف غيرها نشيد الصلاة من الحُديدة حتى النبطية؟
صيام بلا امتناع عن الطعام والشراب والجماع، كصيام بلا غزة وجنين وطولكرم وصعدة وخربة سِلِم؛ صيام المسلمين اليوم من طنجة إلى جاكرتا ومن غانة حتى فرغانة، صيام مبعثر بين الصاد والميم، كما بين محور يقاوم ما استطاع إلى القتال سبيلاً، ومنظومة تطبيع يحاصر بعضها غزة بالدبابات، ويؤَمّن بعضها الآخر طرق الإمداد، غذائياً وحربياً، لـ”بني إسرائيل”، وهم يؤدون طقوس شعائرهم في الإبادة الجماعية في غزة.
يصوم المسلمون ويختلفون بين من ابتدأ الاثنين أو الثلاثاء، بسبب انعدام رؤية الهلال بصرياً أو فلكياً، ولا ترى بصيرتهم من ابتدأ مشوار الصيام اللّدُنِيّ الرباني منذ السابع من أكتوبر، بعد خمسة وسبعين عاماً من طول انتظار فلسطين خيول الأمة، وهي تعبر النهر في ترجمة حالمة لوهج القرآن وهو يصفها ﵟوَٱلۡعَٰدِيَٰتِ ضَبۡحٗا ١ فَٱلۡمُورِيَٰتِ قَدۡحٗا ٢ فَٱلۡمُغِيرَٰتِ صُبۡحٗا ٣ فَأَثَرۡنَ بِهِۦ نَقۡعٗا ٤ فَوَسَطۡنَ بِهِۦ جَمۡعًا ٥ ﵞ، لكن ما من خيل وما من عبور.
بين دموع الأمة وواقعها، مسافة ليست بالضرورة كما بين أقوال السلاطين وأفعالهم من إسطنبول حتى القاهرة، أو كما بين تنظير أحزابها وجماعاتها ومشايخها، وبين تأثيرها، لكنها بالنتيجة واحد، وبعضنا يلهو بالدعاء على من خذل غزة، وهو ماذا؟ أليس في قلب خذلانها؟ فغزة جائعة تقاتل بامتداد أحشائها وقد جعلتها قذائف هاون، وما للأمة وتياراتها وسلاطينها أثر فعل، إلا في نجدة موانئ “إسرائيل”، أو صندوق إغاثة يبتلعه البحر أو تأخذه الريح إلى سديروت، أو يقع على جسد طفل نحيل يتلهف إلى التقاطه فيهرس عظامه الغضة.
إغاثة جوية أو ربما بحرية، وما يصل منها أو قد يصل يجدد الشعور بالجوع والقهر من أمة تراقب المشهد السوريالي عبر معبر رفح، أو عبر طائرة أردنية اجتازت سماء غزة الملبدة بدخان المدافع بتصريح القاتل، ليلهو مليكها في التقاط صور تذكارية لجموع الجائعين، وهم يتراكضون خلف مظلات تبطئ أو تسرع في أشد طقوس الإذلال العربي.
رمضان هذا العام الغزيّ، بلا معنى شرعيّ إلا في صون الفريضة عن الاندثار، ورمضاننا كما أقصانا، بين مقصلة بن غفير وبطش نتنياهو. فالصائم يقف على أعتاب قبلة المسلمين الأولى في المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، ليكمل دينه بالصلاة والجهاد، وهذا “الحَوَل” أخذ من الأقصى البركة الدينية، وتركه لعبث كل شذاذ الآفاق يحفرون في قاعه ليلاً، ويفتحون أبوابه لبركة الكهنة لتأدية خرافاتهم صباحاً، بينما سدنة الحرم من عكرمة صبري حتى خديجة أبو خويص بين سجين أو طريد، وأصحاب الأمانة القانونية في الأردن، مشغولون باستنجاد الأميركي ليمدهم بمزيد من قذائف الباتريوت، لاعتراض وهج صنعاء وبغداد قبل أن يتعثر في سماء إيلات والبحر الميت.
بين بركة ما حول الأقصى، الممتدة بحسب المأثور من الشام حتى سيناء، آية في كتاب الله، وما خلف معبر رفح مئة مليون عربي أو يزيد، ينزفون بصمت حدّ الموت، أو ينشغلون عن غزة بملهاة عبثية لا نهاية لها، يعبثون بالدنيا كما الدين، لكنهم يصومون لمن، وجارهم الراكد في عمق أحشائهم يتضور جوعاً، وليس ثمة إيمان لمن يشبع وجاره جائع؟
ودار الإفتاء المصرية مهتمة، في أول يوم من رمضان، بالفتوى أن التدخين يُفَطّر. يا للهول ورئتا غزة النازفتان بدخان القصف في رفح الفلسطينية، وقد غطى سماء رفح المصرية حتى المصطافين في شرم الشيخ، ألا يُفَطّر دخانه كل الصائمين؟!
يصوم الجائعون من بيت حانون حتى الشجاعية، ولا يأخذون بالرخصة، فالعزيمة دينهم في رمضان، ورمضانهم ممتد امتناعاً عليهم في كل موائد الترف، إلا من قذيفة أو صاروخ أو جرافة، تأخذ ديزل تحريكها أو قطع غيارها عبر موانئنا العربية الإسلامية، والتي نشطت في تفعيلها بعد عجز الموانئ الأطلسية الصليبية عن توفير كفايتها.
كل مسلم يصوم رمضان على توقيته، كما وفق مقاسه وإيقاع تديّنه، لكنّ ثمة حرف نقص، هذا العام، من تكامل رسمه أو مباضع أيامه الثلاثين، فالامتناع مع إخلاص النيّة سرّ أبقاه الله بين الصائم وربه، لكنها غزة تتسلل عبر ثنايا هذا السرّ، لتقف حائلاً إن كان ثمة قبول، وموائدها الفارغة إلا من صرخة عجوز لا تجد مطبخها عصر كل نهار، لكن صدى صوتها يملأ الأفق حتى يصم الآذان ويقرع النيات، بعد أن نفدت كل أسباب الأرض، قائلة: “لنا رب لن ينسانا”، هو رب غزة وصعدة وبليدة، كما رب كل مسلم يصوم عن ترف حياته نصرة لغزة، ولا يفطر إلا في ميادين فريضتها.
نقلا عن : السياسية
في الأربعاء 13 مارس - آذار 2024 12:12:56 ص