|
مَن يتابع وسائل الإعلام العالمية والألمانية تحديداً يلاحظ البون الشاسع بين موقفي الشعب الألماني العظيم وقياداته السياسية الحزبية التي تدير دفة الدولة بجميع مواقفها تجاه الغير، فالمشاهد والمتابع لموقف الشعب الألماني العظيم الذي يخرج في نهاية كل أسبوع وتحديداً في يومي السبت والأحد يشاهد خروج مئات الآلاف ويصل أحياناً حدود الملايين وهم يتظاهرون في شوارع العاصمة برلين ومدنها الكبيرة، مثل لايبزج وفرانكفورت وبون وهسن وهايدل بيرج، وميونخ والعديد من المدن الألمانية الكبيرة والمتوسطة، يخرج هؤلاء المتظاهرون المحتجون وطيلة ستة أشهر تقريباً وهم يحملون يافطات الاحتجاجات القاسية والشجاعة ضد حكومتهم الحالية والقادة الحزبيين الانتهازيين الكاذبين.
يرفعون أعلام فلسطين ويافطات مكتوب عليها شعارات واضحة (لتبقي فلسطين حرة – أوقفوا المذابح الجماعية بحق الشعب الفلسطيني – لا تشاركوا في تمويل جرائم الإبادة الجماعية وتجويع أطفال ونساء وشيوخ الشعب الفلسطيني الأعزل) وغيرها من الشعارات المناصرة لحق أهلنا في فلسطين وحقهم في العيش الكريم على أرض قطاع غزة.
خروج الشعب الألماني المحتج والغاضب على حكومته ومواقفها الهزيلة على الصعيد العالمي نابع من العديد من الاعتبارات السياسية والإنسانية والأخلاقية، ونتاج تربية ثقافية جمعية متراكمة ناتجة من خبرات السنين المؤلمة التي عاشها الشعب الألماني بسبب المواقف الخاطئة والهزيلة للسياسيين الألمان الانتهازيين في سابق الأزمان ولاحقها، وهي سياسات ومواقف وتصرفات اكتوي منها الشعب الألماني الصديق ذي التاريخ الطويل العريق في المجالات العلمية والإنسانية والأخلاقية والفلسفية والأكاديمية.
إن من يتتبع مسار تطور هذا المجتمع الألماني الآري الجميل المعتز كثيراً بتراثه الفكري المتراكم وإسهاماته العلمية والثقافية والحضارية، ومن يغوص في أعماق مجتمعه الإنساني المحب لثقافة الشعوب الأخرى يجد بوناً شاسعاً وفرقاً هائلاً بينه كمجتمع إنساني قوي متماسك جماهيرياً وأسرياً وأخلاقياً، وبين قياداته السياسية الحزبية الانتهازية الكاذبة المدلسة.
إن تجربتي الشخصية في العيش والدراسة والغوص في المجتمع الإنساني الألماني كانت إيجابية بل إنها ممتازة، لقد أمضيت سبع سنوات ونيِّف في العيش والتجول والمعايشة والاندماج العلمي والثقافي والإنساني في المجتمع الألماني بشطريه الشرقي والغربي، ذلك الاندماج الذي مكنني من الاقتراب من العديد من تفاصيل تفكيره تجاه الثقافات والحضارات المختلفة مع عاداته وسلوكه وطريقة عيشه الخاص، ولاحظت بل لمست عن قرب معاملته الإنسانية تجاه الشعوب الأخرى وثقافاته، ولمست شخصياً ملمس المعايشة الإنسانية تجاه شريحة الطلاب الأجانب الذي ننتمي إليهم، وكذلك معايشتهم تجاه شريحة العمال والموظفين والمغتربين والسواح الأجانب الذين يعملون ويعيشون في المجتمع الألماني، وخلصت شخصياً إلى الخلاصات الآتية :
أولاً:
الشعب الألماني الصديق شديد الاعتزاز بهويته الألمانية واعتزازه بلغته وتاريخه العلمي ومنجزاته الثقافية، ويحدثك في هذا المجال صغيرهم وكبيرهم، من العامل البسيط الصغير والذي يحفظ عن ظهر قلب أسماء العلماء والمفكرين والفلاسفة الألمان إلى أساتذة الجامعات والعلماء والإعلاميين، أي أنهم يعتزون ويفتخرون بذاتهم وهويتهم الجمعية الألمانية.
ثانياً:
يتألمون لماضيهم حد الكراهية الجماعية وبالذات في زمن النازية العنصرية السوداء ويعتبروه أحد الأخطاء الكبيرة التي لا تُغتفر، والخسائر الإنسانية التي ألحقوها بالشعوب الأخرى كالسلافيين، والأنجلو ساكسن، والغجر والمعوقين، واليهود، والأفارقة، ولكنهم دائما يرددون في مناقشاتهم الخاصة وما أكثرها، بأنهم خضعوا لموقف سياسي عنصري ابتزازي من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وتم التصوير الخاطئ إعلامياً ودعائياً بأنهم – أي الألمان – قد اضطهدوا فئة وشريحة واحدة من البشر وهم اليهود فحسب، وهنا لعبت الحركة الصهيونية المعادية للشعوب بأن هناك احتكاراً للمأساة والمظلومية بأن اليهود وحدهم من تعرض للمأساة والتي تقول تقاريرهم بأن اليهود خسروا (6 ملايين يهودي في الحرب العالمية الثانية في محارق الهولوكست النازية ) ويتجاهلون عمداً خسائر أرقام ضحايا الشعوب الأخرى كالشعوب السوفيتية التي خسرت أزيد من 30 ثلاثين مليون سوفيتي، وبلغت خسائر ألمانيا أزيد من 8 مليون ألماني، وبقية الشعوب قد خسرت الملايين من البشر، لكن الماكنة الإعلامية الصهيونية السوداء لا تذكر سوى السردية اليهودية الصهيونية، وهذا بطبيعة الحال هو موقف سياسي موجه ضد الشعب الألماني بهدف ابتزازهم عقوداً لاحقة وربما قروناً قادمة وهذا هو جوهر العقلية المريضة للسياسيين النورانيين الصهاينة التي جرَّت شعوب العالم وقد تواصل في جرِّها لقرونٍ قادمة لا سمح الله.
هذا التصنيف المنحاز يرفضه الشعب الألماني بجميع شرائحه، ويقبله سياسيوهم وقيادات أحزابهم الفاسدون المرتشون الانتهازيون الضعفاء.
ثالثاً:
يعتزون كألمان كثيراً بأنهم طوروا مبادئ الكنيسة المسيحية الباباوية من خلال الثورة الفكرية الجذرية للقسيس الثائر /مارتن لوثر حينما قرر ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية لأول مرة في التاريخ الإنساني، والقيام بتطوير وتجديد الفكري الكنسي الثوري الذي أنتج المذهب البروتستنتي ذائع الصيت والشهرة حول العالم في أيامنا هذه.
لقد طورت النظرية اللوثرية الثورية المبادئ والقيم الكنسية البابوية الفاسدة والمترهلة، ولذلك التف حول المذهب البروتستنتي جميع المسيحيين الفقراء من جميع أركان القارة الأوربية، وتحولت إلى مذهبٍ عارم كاسح لفقراء وكادحي العالم أجمع.
رابعاً:
أنتج المجتمع الألماني في مدرسته الفكرية الفلسفية نخبة من الفلاسفة والمفكرين في العلوم الاجتماعية وذاع صيتهم حول العالم، وكانوا رواداً كباراً لعصر التنوير الأوروبي، وأبرز هؤلاء الفلاسفة هم:
جورج هيجل، ونوفاليس، وكانت، يوهان فيتشه، كارل ماركس، فريدريش شيلن ، فريدريش هولدرن ، فريدريك انجلز وآرثر شوبن هاور .
وأصبحت المدرسة الفلسفية الألمانية حاضرة بين المدارس العالمية التي يُشار لها بالبنان من بين المدارس الأوروبية والعالمية.
خامساً:
أصبحت الفنون والموسيقي الكلاسيكية اليوم وبالأمس جزء أصيل من حياة المواطن الألماني سواءً أكان (فقيراً أوغنياً)، وتجد أن هناك سلسلة من مسارح الكونسرت عالية المستوى والجودة وراقية الشكل والمضمون، وتجدها منتشرة في جميع المدن الألمانية بدءاً من العاصمة برلين التي تحوي أرقي المسارح وأجملها مرورا بمدن فرانك فورت أماين، لايبزج، ميونخ، دريسدن، كولن، هايدلبرغ بيرج وبون، والعديد العديد من المدن الكبيرة والمتوسطة، أي أن المجتمع الألماني المخملي العالي والعادي البروليتاري كلهم يضعون في جدولهم الأسبوعي أو الشهري الفصلي زيارة هذه المسارح مرات في العام وحتى في الفصل، والسبب في ذلك تذوقهم الراقي والجميل للفن والموسيقى الألمانية عالية المستوى على الصعيدين المحلي والعالمي .
وحينما تراجع مفكرتك الشخصية للانتقاء إلى أين تذهب في نهاية الأسبوع قد تحتار في الاختيار للمشاهدة والتمتع بين برامج الموسيقيين الكلاسيكيين الألمان العظماء أمثال:
يوهان سباستيان باخ، لودفيغ فان بيتهوفن، روبرت شومان، فاقنر الذي زامل وصادق الفيلسوف الالماني الشهير نيتشه، هانز زيمر، يوهانس برامس، ريتشارد شتراوس، وكلارا شومان، والعديد العديد من صناع الفن الخالد لألمانيا والعالم أجمع، الخ.
سادساً:
برعت ألمانيا في تخريج العديد من العلماء الكبار والذين كانوا أشبه بمعجزات العلوم الطبيعية في الحياة، واستطاع الألمان من خلال هؤلاء العلماء من إنتاج حضارة اقتصادية باهرة، بالإضافة إلى قدرات الألمان الذاتية والمهارية والإبداعية وسجلوا ماركات خاصة بهم نتاج جهدهم وطاقاتهم شبه الخارقة في التصنيع الاستهلاكي المدني والعسكري والحربي، وصولاً للعطر الألماني الفواح، جميعها من عرق وجهد وتضحيات العامل الألماني المبدع النشط.
واستطاعت الجامعات الألمانية المتميزة أن تصبح عالمية ومستقطبة للجوائز الأوروبية والعالميّة لإنتاجها الأبحاث العلمية الرصينة والمنافسة في السوق العالمية.
فجامعاتهم عريقة قديمة زمنياً، وإنتاجهم العلمي نوعي، وأبحاثهم تنافس أرقى الأبحاث العلمية العالمية، وكتبهم الأدبية عالية القيمة والمحتوي، هكذا هم الألمان وهكذا هو إنتاجهم المعرفي النوعي.
سابعاً:
استطاعت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وبعدد من السنوات والعقود بان تحتل صدارة الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة بعد الدمار الشامل الذي حل بها جرَّاء عبث دول الحلف العسكري الذي هزمهم في الحرب العالمية الثانية.
وقد اعتمد الألمان على مواصلة إرثهم الصناعي والزراعي ما قبل الحرب، وطوروا بكفاءة عالية مجالات الاقتصاد الألماني للفروع الرئيسية المنافسة بكفاءةٍ عالية في الاقتصاد العالمي.
الأمر المحيِّر للمتابع العادي والمراقب اللبيب والمحلل الجاد، يجد أن هناك أموراً لا تستقيم لمجرد الرؤية إليها، وتنطلق من التساؤلات المشروعة ووفقا للمعطيات التاريخية والعلمية والإبداعية والإنسانية.
كيف لهذا الشعب المعطاء، والشعب الجاد والمثابر والنشط والذكي والذي حقق كل هذه الإنجازات، كيف لم ينتج نظام سياسي وقادة سياسيين أكفاء يوازون عطاء وإنجازات شعبهم؟
كيف لشعب عملاق حقق كل ما حققه للإنسانية جمعاء لا يكافئ ذاته بإنتاج نُخب سياسية ذات كفاءةٍ تعادل ما أنجزه في معظم حقول المعرفة؟
هذه تساؤلات مشروعة وملحة وجادة وصادقه نطرحها على أصدقائنا الألمان الذين عرفناهم وخبرناهم وخبرتهم تجارب السنين الفائتة والتجارب المرة التي مرت على أصدقائنا الألمان، وهنا نتوقف بمسؤولية عالية، وضمير حي، وحنق شديد لحبنا وتقديرنا لهذا الشعب الألماني العظيم، ما هي الثلاث المحطات التاريخية المفصلية التي برئينا تستحق الوقوف والمجادلة حد التناقض؟
المراحل التاريخية الثلاث التي تستحق التقويم الموضوعي والجاد من تاريخ ألمانيا هي:
أولاً:
أصدر الإمبراطور الألماني / فلهم غول يوم قراراً ظالماً بحق الشعب الأفريقي الناميبي ففي العام 1904م قرر الألمان البدء بمذابح جماعية لإبادة المواطنين النامبيين المحليين (المتمردين) من شعب هيريرو وناما، هكذا بدأت الذريعة الإعلامية يوم ذاك بأن هناك متمردين ناميبيين على النظام الألماني الاستعماري ولهذا وجب مكافحتهم وقتلهم، وقتلوا ما بين عامي 1904- 1908م من السكان قرابة 80 %، وهرب الباقين خارج حدود البلاد.
لقد قامت السُلطات الاستعمارية الألمانية بتنفيذ قرار الإبادة الجماعية لجميع الرجال وحتى أطفالهم وكذلك إبادة النساء المسنات واغتصاب الفتيات من قبل الجنود الألمان، هكذا كان يفكر ويتصرف الأوروبيين العنصريين البيض قبل 100 عام فحسب.
وفي الذكرى المئوية للمجزرة اعترفت حكومة أنجيلا ميركل بهذه (الواقعة أو الحدث، أو الجريمة) وأعطت تعويضاً مالياً تافهاً وحقيراً للحكومة الناميبية وعلى مراحل، ولهذا رفضت قبائل ال هيريرو وناما ذلك التعويض المذل ولا زال الجدل قائما.
ثانياً:
في 30/ يناير / 1933 م صعد على سدة الحكم الفوهرر / الهر / أدولف هتلر وحزبه النازي البائد، وبانتخابات حرة وديمقراطية علنية دستورية قانونية، مع أن الحزب الألماني النازي ومن خلال برنامجه الانتخابي المكتوب والمُعلن للناخبين، وكذا بكتابات قائده الأول/ أدولف هتلر ومنها كتابه الشهير (كفاحي) قد عبّر بوضوح عن توجهاته السياسية العنصرية التمييزية والمخالفة لمنطق الأشياء، ومتعارضة للفكر والتعايش الإنساني الطبيعي بين البشر، ومع ذلك تحالف معه ومع حزبه النازي، وفي برنامجه الانتخابي السياسيين الألمان من الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU) ورجال وقساوسة الكنيسة بشقيها البروتستانتيّ والكاثوليكي، والحزب الليبرالي والحزب الاشتراكي الاجتماعي (SPD)، ولفيف من المثقفين، ولم يعرض الحزب النازي سوي الحزب الشيوعي الألماني بقواعد العريضة آنذاك .
هذه سقطة كبيرة وخطاٌ فادح وقع فيها السياسيون الألمان قبل قرابة 100 عام تقريباً.
ثالثاً:
يشاهد العالم كل العالم المذابح الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي في قطاع غزة منذ سبعة أكتوبر 2023م وحتى كتابة مقالنا هذا وراح ضحيته أزيد من 32000 شهيد جلهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وأزيد من 73000 جريح، عشرة آلاف مفقودٍ لازالوا تحت الأنقاض التي دمرها جيش الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي اليهودي، كل هذه الجرائم المنجزة تحدث والسياسيين الألمان يصمون آذانهم ويعصبون على عيونهم، ولا يرغبون أن يروا الجرائم المُرتكبة بحق الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين العُزل.
كرر السياسيون الألمان الفاسدون زيارتهم المكوكية لمدن تل أبيب والقدس الشريف في فلسطين المحتلة، كي يتضامنوا مع القتلة المجرمين الصهاينة اليهود سياسيون وعسكريون وأمنيون، ووعدوهم بأن لا ينقطع سيل المساعدات العسكرية ولا الذخائر ولا المؤن ولا الدعم المالي السخي، وكان الهر / أولاف شولتز يقول دعوني أُكفر وأطهر وأغسل دماء اليهود في معسكرات الهولكوست في ألمانيا بدموع وبدماء أطفال فلسطين ونسائها.
أي أنه يغسل عار بعار، ويُكفِّر بجريمة عن جريمة أخرى، ومأساة إنسانية بمأساة أُخرى، هكذا يتعامل السياسيون الألمان الفاسدون في نصرة القاتل الصهيوني تجاه الضحية الفلسطيني المظلوم.
الخلاصة :-
السياسيون الحزبيون الألمان الحاليون أمثال /الهر/ أولاف شولتز مستشار ألمانيا، والهر/ روبرت هابك نائب المستشار ووزير الاقتصاد، وآن لينا بيربوك وزيرة الخارجية، والهر / كريستيان لندنر وزير المالية، والهر / بوريس بيستوريوس وزير الدفاع وبقية الشلة من الحكومة الحالية، جميعهم لم يتعلموا بعد من دروس الماضي، وليسوا جاهزين للتعلم، وهم أضعف من أن يتعلموا من دروس وتجارب الماضي الاستعماري البغيض والنازي لألمانيا المجرم، ولذلك هم يكررون اليوم في موقفهم من شهداء وضحايا قطاع غزة ذلك الموقف المعيب والمخزي كما وقف السياسيون في زمن الاستعمار وزمن النازية القبيح.
وفوق كل ذي علم عليم
* رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال في الجمهورية اليمنية – صنعاء
*نقلا عن : السياسية
في الإثنين 25 مارس - آذار 2024 03:49:59 ص