زيد المحبشي*
تختصر مدينة القدس السليبة، فلسطين المُغتصبة جغرافيا ومعنى، وفلسطين تختصر العالم جغرافيا ومعنى، كما يصف السيد الخميني رحمة الله عليه، من هنا أتت أهمية يوم القدس العالمي الذي أطلقه رحمه الله، في 13 – 15 رمضان 1399هـ، الموافق 7 أغسطس 1979، ودعى المسلمين في أنحاء المعمورة لاتخاذ الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك موعداً لإحيائه، ومن يومها تحولت هذه الذكرى المباركة إلى رمز ديني بارز في خدمة الأهداف الفلسطينية مقابل الرؤية الوطنية والقومية الضيقة عربياً وفلسطينياً، وقاعدة أساسية لحماية القضية الفلسطينية من معاول الهدم الإستسلامية، ومنبراً للتذكير بأهمية القدس لدى أتباع الديانات الإلهية، وأهمية الحفاظ عليه من جرذان الهدم التهويدي النازي.
وبذلك تمكن رحمه الله من إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وتصحيح مسار النضال الفلسطيني، ونقل هذه القضية العادلة والمُحقة من الحيز الوطني والقومي الضيق إلى الفضاء الإسلامي والعالمي الواسع، والتوجه بخطاب الاستنهاض والمناصرة للقضية الفلسطينية الى الشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم الحر بعيداً عن الحُكام والأطر الرسمية للأنظمة المتآمرة والمسبحة بحمد أبقار البيت الأسود وقرود تل أبيب، إيماناً منه بأن هذه الشعوب الوحيدة القادرة على إعادة الحق إلى نصابه والانتصار للمستضعفين في فلسطين الذبيحة، لأنها لم تتلوث بمصالح الأنا الهادمة لصرح الأنسنة.
ولما لهذا اليوم من أهمية أسماه السيد عبدالملك الحوثي بفرقان العصر لأنه نقطة فارقة بين أهل الباطل وأهل الحق، أتى ليُعيد للقضية الفلسطينية وهجها بعد أن تكالبت عليها الأمم، ووجهت كل سهامها إلى نحرها الطاهر، وراهنت على التخلص منها ووأدها.
ألغام الصراع وأوهام السلام:
يتفرد الصراع “العربي – الصهيوني” عن غيره من الصراعات الكونية المزمنة باحتوائه على وقود صراعي يُشبه إلى حد التطابق وقود المفاعلات الذرية، وهذا الوقود دائم الاشتعال ولا يمكن إطفائه إلا عندما ينتهي الأجل وتحين الساعة، بمعنى احتوائه على عوامل صراعية وتصادمية تكفي لاستمراره قروناً أخرى من الزمن، وهذا الكلام ليس من قبيل المبالغة والتهويل، بل هو عين الحقيقة كما تشهد بذلك الوقائع الميدانية، وما ترتب عليها من إشكاليات وأزمات، أصبح حلُّها مُندرجاً في خانة المستحيل، بفعل العامل الزمني والتعقيدات الإقليمية والدولية، المُلقية بظلالها على هذا الصراع، والمتحولة مع مرور الوقت إلى أحد أهم عوامل الحسم لجدلية السلام سلباً أو إيجاباً.
إذن فنحن أمام صراع هو الأطول من نوعه في تاريخ البشرية والأكثر تعقيداً وخطورة، صراع استغرق حتى الآن قرناً من الزمن، وربما يستغرق قروناً أخرى قبل التوصل إلى حلول مُرضية وعادلة وشاملة ودائمة.
مداليل ذلك نجدها في تحدِّيه خلال قرنه الأول عامل الزمن وعصر الاستعمار وتعدد الأقطاب والقطبية الثنائية والقطبية الأميركية الأحادية والعولمة وعالم ما بعد 11 سبتمبر 2001، وبالتالي تلّونه وتشكّله مع كل عصر وزمان، بصورة أصبح معها إحباط خطوات الحل السلمي وجهود السلام، سهلاً قدر سهولة تهديد حياة مريض بنكسة قلبية دامية بينما هو لم يغادر بعد غرفة الإنعاش!!.
ومما فاقم هذا الصراع وجعله يخرج عن حدود السيطرة، ويستعصي حل عُقده على العطارين الدوليين والنخاسين الإقليميين، تخلي فريق من أصحاب الحق عن سلاح المقاومة ورميهم أحلامهم التحررية في شباك السلام الموهوم، والأكثر خطورة تخليهم عن مطالب التحرير الشامل لكامل الأرض الفلسطينية المحتلة واكتفاءهم بالسعي وراء سراب الدولة الكانتونية.
ومنذ طُرح ذلك الوهم السرابي في ستينيات القرن العشرين من قِبل منظمة التحرير الفلسطينية وتالياً حركة فتح، والحقوق الفلسطينية المشروعة تذوب وتتلاشي وتتقزم، والعدو يتفنن في القتل والتعذيب والسلب والنهب والقضم والبسط، متوجاً ذلك بجر العرب إلى مصيدة السلام الموهوم بدءاً باتفاقية كامب ديفيد، 17 سبتمبر 1978، ومرورا باتفاقية وادي عربة 26 أكتوبر 1994، وانتهاءا باتفاقيات السلام الإبراهيمي 2020، وما تلاها من مهازل استسلاميه، أتاحت للعدو حرية التغول والتوسع وخلق حقائق ميدانية بتواطؤ عربي رسمي في معظمها جعلت من أحلام الفلسطينيين بإقامة دولتهم الموعودة أمراً بعيد المنال.
وتُعد اتفاقية كامب ديفيد نقطة فارقة في تاريخ الصراع “العربي – الصهيوني”، وهي أم المجازر للتنازلات العربية الرسمية المُهينة المنهمرة كماء المزن بلا كوابح ولا ضوابط أخلاقية ولا دينة ولا عروبية ولا قومية، وبوابة السعد الأولى للكيان الصهيوني اللقيط للتنصل من كل القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية، والمسمار الأول في نعش هذه القضية، التي كانت إلى حينها القضية المحورية الأولى للعرب، ومن يومها تمكن العدو من الانفراد بدول المنطقة، وتحويل التفاوض الصهيوني مع العرب من طابعه الجمعي الموحد الذي أرسته قمة الخرطوم العربية 29 أغسطس 1967 إلى مستنقع المسارات الأحادية، وتحويل مسار الصراع من فضائه “العربي – الصهيوني” إلى بوتقة الصراع “الفلسطيني – الصهيوني”.
وما بينهما بدأ العدو برسم المخططات لإقامة ما أسماه القدس الكبرى، وجعلها عاصمته الأبدية.
من هنا تأتي أهمية ارساء السيد الخميني ليوم القدس العالمي، وأهمية اختيار القدس رمزاً لاستنهاض الأمة ضد عدوها الأوحد، وتوحيد جهودها لمواجهته واحباط مؤامراته المتناسلة من رحم التخاذل العربي والخذلان الإسلامي، ومناسبة لإظهار وحدة الأمة واتحادها حول كلمةٍ سواء، وأي كلمة أحق بأن تكون رمزاً لهذه الوحدة المقدسة من القدس، مدينة المقدسات والأنبياء.
وكم هي الأمة بحاجة لتحويل هذا اليوم المبارك إلى نقطة انطلاق للتحشيد في اتجاه المواجهة الفاصلة مع العدو، والاصطفاف حول قوى المقاومة باعتبارها المتنفس الوحيد لأحرار عالمنا العربي المكلوم، والحامل للواء الدفاع عن أم القضايا “القضية الفلسطينية”، خصوصاً وما نراه من مجازر تقشعر لها الأبدان في غزة، ولم تُحرك ساكناً لدى حكام العرب والمسلمين.
ويبقى الرهان على الشعوب الحية، لجعل هذا اليوم المبارك فُرقاناً بين قوى الخير والحق وقوى الطغيان والباطل.
كاتب يمني
* نقلا عن :رأي اليوم