|
الثورةُ -أيَّةُ ثورة- تحدُثُ عادةً نتيجةً للتناقض الشديد بين مصالح الطبقة المسيطرة وبين بقية فئات الشعب، ما يخلُقُ صراعاً ثورياً ويحقّقُ انقساماً مجتمعياً أُفقياً يقسمُ المجتمعَ إلى كتلتين: كتلة تضُمُّ معظمَ فئات الشعب وطبقاته صاحبة المصلحة فـي التغيير، وكتلة تضُمُّ طبقةً أَو تحالف شرائح طبقية مسيطرة تستأثرُ بالسلطة والثروة، وتدافعُ عن بقاء الواقع وتأبيده.
الكتلةُ الثورية تضُمُّ فئاتٍ شعبيّةً ذات مصالحَ متجانسة أَو متشابهة ومتناقضة فـي آن مع مصالح الطبقة المسيطرة، وهذا التناغُمُ والتناقض يساعد على تلاحم الكتلة فـي نضالها الثوري لتحقيق مصالحها ومطالبها فـي حياة كريمة وآمنة، وتحقيق العدالة والاستقرار والمواطَنة المتساوية، وسلب القوى المسيطرة امتيازاتِها وتفكيك أدوات السلطة الموازية.
كانت ثورةُ فبراير فـي بدايتها تعبيراً عن هذا التناقض وهذا التشابه وهذه الآمال، ويفترضُ أن تعمقَ الانقسامَ الأفقي بصورة واعية عبر استقطاب أعم الجماهير ذات المصلحة إلى الثورة لتحلَّ قضاياها، وهو ما لم يحدُثْ فـي ثورة فبراير، إذ تشظِّي النظام إلى أطراف متصارعة، وانضمامُ أحد أطرافه إلى الثورة أحدث انقساماً عمودياً داخل النظام وأفرز انقساماتٍ عموديةً مجتمعية وداخل الساحات الثورية.
الفصيلُ المنشَّقُ عن النظام (الإصلاح – وآل الأحمر) والذي هو جزءٌ من تركيبة النظام القديم فـي المشترك ويتشابه مع النظام لحدِّ التطابق فـي خصائصهما ومصالحهما الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة، كان التحاقُه بالثورة هو التحاق بالتسوية السياسيّة وليس بالثورة؛ لتوسيع مصالحه وليس للتغيير.. ولأن مصالح هذا الفريق الملتحق بالثورة فـي تناقض جوهري مع مصالح شباب الثورة ومصالح السواد الأعظم من الشعب عموماً، فلم يستمر الانقسامُ بين كتلتين كما بدا، بل غدا دوائرَ متداخلةً من الانقسامات العمودية والأفقية، ومثّل ذلك قيداً كبّل الثورةَ والتغييرَ للمستقبل السعيد الذي رفع لواءَه شبابُ الثورة.
التحقت قياداتُ الإصلاح والجنرال علي محسن آل الأحمر بالثورة الشبابية الشعبيّة، لكن مع احتفاظها بكامل امتيازاتها السلطوية والاحتكارية، وبعد أن التحقت بها تولت قيادتَها وفرضت عليها الوصايةَ باسم حمايتها، وأفرغتها من مضامينها الاجتماعية والسياسيّة الثورية وأخذتها كورقة لتحسين شروطها التفاوضية فـي “المبادرة الخليجية”.
الانتكاسةُ الثورية بتحوُّلِ الثورة من ثورة شعبيّة إلى انقسام رأسي للنظام وشعبي والدخول في تسوية حافظت على مؤسّسات ورجال النظام القديم، ورحّلت مطالب الثوار إلى مؤتمر الحوار الوطني، بينما في مصر وتونس جرى حَـلّ مؤسّسات النظام القديم التشريعية والتنفيذية، وبما أن هذه المؤسّسات تمثل مصالح النظام القديم فإن من الطبيعي أن تمانعَ التغييرَ الثوريَّ وتقاومَ أية إصلاحات.
فشلت العمليةُ الانتقالية عقيبَ ثورة فبراير ٢٠١١ في تجنيب اليمن دوراتِ العنف، مقارنةً ببلدان الربيع العربي التي شهدت عمليةً انتقالية وحواراً سياسيّاً كتونس ومصر والتي وإنْ لم تنجح في تحقيق أهداف الثورة كاملة لكنها في الحد الأدنى جنّبتها موجاتِ عنف محتملةً.
وزّعت المبادرةُ الخليجية الغنيمةَ بين طرفـَي النظام القديم وحلفائهما من اليساريين والقوميين وركّزت على البحث عن صيغة للاستقرار الهشِّ لا الاستقرار المجتمعي أَو حَـلّ التناقضات الاجتماعية. وأحالت مطالبَ الثورة إلى مؤتمر الحوار الوطني على شكل إصلاحات دستورية مع احتفاظ أطراف النظام بكامل أدوات السيطرة والسلطة والثروة التي تضمن لهم إعادة إنتاج أنفسهم وتجاوز الإصلاحات الشكلية.
القياداتُ الرسميةُ والحزبية التي تولّت مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية أرادت مؤتمرَ الحوار الوطني محطةً للتنفيس الثوري وإخراج الجماهير من الساحات ومن ثَمَّ إعادة تكريس وتوزيع السلطة بين أطراف النظام القديم وما تيسر لحلفائهم في المشترك. وتعاملت باستخفاف مع التوترات وتركتها تأخذ مداها دون أية تدابير أَو آليات إنذار مبكر لاحتواء التصعيد، إضافةً لجمود وافتقادها للمرونة في إدخال تعديلات على تصميم المبادرة الخليجية للمرحلة الانتقالية لتستجيبَ لمرحلة ما بعد الحوار الوطني.
الرئيسُ التوافقي كان يفتقدُ للمبادرة والقدرة على خلق حال من التوازن بين القوى السياسيّة، وفرض مساراً مرسوماً سلفاً، متجاوزاً مبدأَ التوافق الحاكم للعملية الحوارية فـي قضايا مصيرية واستراتيجية، غير عابئ بردود الفعل المحتملة للقوى الفاعلة، ولا بخارطة التوازنات المتشكلة، واضعاً بيضَه كلَّه فـي سلة المجتمع الدولي.
تعسف الرئيس التوافقي في استخدام الصلاحيات المطلقة التي منحتها له المبادرة الخليجية على الحكومة ومجلس النواب والعملية الحوارية، غيرَ مدركٍ أن المرحلة الانتقالية تدار من خلال تحقيق أكبر من التوازن بين القوى الفاعلة وليس من خلال أكبر قدر من القرارات الإدارية.
في هذه المرحلة أنصار الله جماعة ثورية لا تملك الأدوات السياسيّة اللازمة، بينما يمسك هادي وقوى المبادرة بكل الأدوات السياسيّة من علاقات وموارد ومؤسّسات ويرفضون تمكين أنصار الله من أية أدوات ضغط سياسيّة تمكّنهم من منع أي التفاف على مخرجات الحوار وإفراغها من مضمونها، ولم يكن بيدهم إلّا أدوات ثورية والقدرة على الحشد والتعبئة.
قاد أنصارُ الله وحلفاؤهم احتجاجاتِ 21 سبتمبر 2014م. لم يكن من ضمن مطالب المحتجون الإطاحة بهادي وكانت مطالبُهم واضحةً ليس من بينها إسقاط النظام ولا الإطاحة بهادي ومعلنة توسيع الشراكة والتنفيذ مخرجات الحوار والتراجع عن الإصلاحات السعرية.
انتهت الاحتجاجات بتوقيع اتّفاق السلم والشراكة الوطنية الذي رحّبت به مجموعة الدول الأربع عشرةَ بالاتّفاق وكذلك مجلس التعاون الخليجي والأمم المتحدة والاتّحاد الأوروبي.
لم يكن ما حدث انقلاباً ولا تنطبق عليه التوصيف القانوني للانقلاب وَكُـــلّ الأطراف المحلية وَالإقليمية والدولية لم تتعامل معه حينها على أنه انقلاب.
لم يكشفْ زلزالُ 21 سبتمبر كما أسماه المبعوثُ الأممي السابق جمال بن عمر عن فشل السلطة في إدارة التوافق السياسيّ كآلية لتجنب الحرب وأوصلت الدولة فحسب، أكثر من ذلك أظهرت كيف أوصلت قوى المبادرة الدولة لمرحلة الفشل والعجز الكامل عن أداء وظائفها في حماية مواطنيها وخروج الوحدات العسكريّة والأمنية عن سيطرتها وَفقدان الثقة بمؤسّساتها، وتحكم الخارج في شؤون الدولة الداخلية.
في الثلاثاء 12 فبراير-شباط 2019 07:33:07 م