|
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، انطلقت واحدة من أقوى صرخات الرفض في التاريخ العربي. صرخة وجدانية جماعية هائلة حاولت أن تنقذ في الإنسان العربي والمسلم معنى الحياة بإعادة ضبط بوصلته إلى فلسطين. اليوم نستطيع أن نقول بكثير من الثقة والإيمان أن طوفان الأقصى كان ميلادًا وبعثًا للقلب العربي والروح العربية، وتصويب الخطى بعيدًا عن الأزمات المستوردة والقضايا المصطنعة والخلافات التافهة الملفقة. اليوم نستطيع أن نردّد بحماس وإصرار أن الاتّجاه إلى خيار البندقية كان في النهاية اكتشافًا لطريق يقين وكرامة وأمل، بعد فترة طويلة ساد فيها الإحباط والضياع والهوان.
السؤال الأول والواضح لعملية طوفان الأقصى هو: كيف كنا وماذا كان بأيدينا وما الذي وصلنا إليه اليوم؟ والإجابة أن المقاومة بمزيج من الفعل القادر والإيمان الذكي أعادت هندسة الواقع في منطقة الشرق الأوسط – على الأقل - بأن قدمت مفتاح "وحدة الساحات" كرد مباشر على عملية التطبيع العربي - الصهيوني الأضخم وما كان سيصاحبها من تهميش قضية فلسطين وإحالتها إلى دفاتر ذكريات التاريخ وشجونه الباردة. على المستوى العملي، فإن انخراط جبهات لبنان والعراق وسورية واليمن وإيران في العمل إلى جانب المقاومة الفلسطينية قد دفع الغرب إلى ضم صفوفه مع كيان العدوّ الهش، وبالتالي فقد نقل القضية برمتها إلى خانة القرع على الرؤوس وفي الضمائر، بقدر ما تطلبت المعركة جهدًا عسكريًا وسياسيًا أوسع، وضغطت على العصب الحساس في الغرب، وهو الشارع ورجل الشارع العادي والطالب، وبالاعتماد على وسائل شبه بدائية في التصوير والنقل والبث، تجاوزت كلّ منظومات الإعلام الأميركي الموجه والمعادي.
لم تنتقل قضية فلسطين إلى الغرب والعالم على صورة بكاء أو مظلومية تستدعي مشاعر الشفقة أو تستثير الدموع، لكنّها انتقلت على صورة ثورة ضدّ الظلم المعولم والجريمة المنهجية المنظمة. انتقلت كما في الصورة الأدبية الفذة لليوناني كازانتزاكيس "المسيح يُصلب من جديد"، وشرح التغريبة الفلسطينية للمرة الأولى منذ 1948 باعتبارها صراع الإنسان منذ فجر التاريخ نحو العدالة كقيمة سامية، بما فيها من فهم ووعي بعقلية الآخر. رغم قتامة الصورة وبؤس الإمكانيات وتردي الأفعال وابتلاء بأشباه الرجال، فإن المأساة تتطلب من كلّ إنسان أن يتخّذ ولو بالضمير موقفًا، ومن الجميع أن يتضافر ابتغاء هزيمة قوى الشر المتمكّنة، وهذا ما خلق حالة اليقظة والانتباه للجامعات في أميركا وأوروبا وحراكها الحالي.
قبل يوم واحد من طوفان الأقصى، كانت كلّ الجهود الرسمية للنظم العربية برعاية أميركية تفرض حالة من التأويل والتشكيك والتمرير لواقع التطبيع الجديد، كانت المنطقة العربية تسير نصف نائمة إلى القبر، حيث تختار الإنتحار أو الدفن حية، فور إعلان الرياض عن اختراق الكيان للحلقة العربية حوله، بدا وكأن هناك قفز مجاني بعيدًا عن مسيرة التاريخ، ولم يبد أن هناك من هو قادر على منعه سوى بيانات الشجب والإدانة، لكن الفعل المذهل في طوفان الأقصى قد بلغ حدًا من الكمال إلى درجة مدهشة وعجائبية. في لحظات، انهار جدار غزّة وتبخرت الفرقة الصهيونية، وفي اليوم التالي تحطم "خط بارليف الجديد" في الشمال، وأُزيل من الوجود كلّ ما كان يمنع فكرة اجتياح شامل للجليل وشمال فلسطين، والعملاق المخيف الذي ظلّ الكيان يستنزف نفسه فيه كان عملاقًا بأقدام من قش ومن خيال فهوى، ويمكن مراجعة المواقع الصهيونية – لا المقاومة - في هذه النقطة تحديدًا.
بالنسبة للموقف الميداني في الجبهات، وبعد سبعة شهور ونيف من القتال، فإن المقاومة التي وضعت العدوّ - للمرة الأولى تاريخيًا - في خانة رد الفعل وقد فشلت المظلة الثلاثية من: الردع والحماية والتنبؤ في مجاراة المقاومة وسرعة تدفق الحوادث وسيولتها الشديدة في ميدان المعركة، إلى ممارسة العنف، العنف المجرد، وبقدر ما تطلب الصمود من تضحيات فقد قدم إلينا نتيجة ملموسة هو كشف مدى وعمق ضعف الكيان وهشاشته البالغة والكذب الفاضح الذي كانت ماكينات الدعاية العربية الغبية تمارسه بحق وعي الشعوب وإرادتها، وعند لجوء طرف بالغ الضخامة والقوّة إلى ممارسة العنف وحده كهدف واستراتيجية، فإن الأمر يستحق وقتًا للإستيعاب والدرس والفحص، قد تسمح الظرف أحيانًا باستمرار الأغبياء، لكنّها لن تسمح باستمرار كلّ هذا القدر من الحماقة والغطرسة والعناد معًا.
قلب معادلة طوفان الأقصى يمكن وصفه بما يعرف في أدبيات المقاومة بـ"التراكم"، وهو نتيجة التلاقح الخلّاق بين القوّة والوعي، بين الثقة والكفاءة. فالمقاومة هي خط صاعد على جبهة القدر منحوتة بالدم والعرق والآلام، كما عبّر عنها سماحة السيد حسن نصر الله: إن "المقاومة التي تقاتل اليوم على الجبهة هي نتيجة تراكمية للماضين والحاضرين والآتين في المستقبل"، هي ثمرة الغرس الطاهر، وفي الوقت ذاته، هي مصباح إمكانية التغيير أمام الآخرين، هي اليد المستعلية بالله التي تحطم صورة الكيان الذهنية، وتبدّد آثار قبضتها الثقيلة على الرقاب وفي القلوب، هي عاصفة إزالة وكشط قشرة الوهم الهائلة للعدو، التي غزلناها بأيدينا تبريرًا لمن فرطوا وهانوا، ومن المخجل في النهاية أننا ابتلعناها.
يوم الخميس 16 آيار/ مايو، وبالتحديد على جبهة الشرف في جنوب لبنان، جرى إسقاط إحدى أطول خدع التاريخ العربي عمرًا وأكثرها تكرارًا، ما اشتهر عربيًا بأنه "اليد الطولى" أو سلاح الجو الخارق للعدو، القادر على توجيه أي ضربة في أي مكان طالما شاء، من تونس إلى قلب القاهرة ومن قلعة دمشق العالية إلى حلم النووي العراقي، وحتّى في وجود قوى عالمية ثانية، لم يرد أحد بقصف جوي للعدو، لم تطاله الأيدي العربية بنفس أسلوبه قبل هذا اليوم، للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني دوت كلّ أناشيد الفخر وآيات النصر مع عبارة "قصف جوي للمقاومة"، للمرة الأولى نعاين بالعين أن دماء 15 ألف طفل في غزّة صارت لعنة متحققة على العدوّ وهزيمة واقعة محتومة كالقدر.
* نقلا عن :موقع العهد الإخباري
في الجمعة 24 مايو 2024 09:28:45 م