في رثاء «أمِّ حسن» وعزاء الرجل الثقة
علي كوثراني
علي كوثراني
 
بالرغم من تعرُّفنا عليها من خلال مقابلةٍ مُصوَّرةٍ يتيمةٍ لم تتخطَّ الدقيقتين، أصابت الحاجَّة «أم حسن» قلوبنا إصابةً مباشرةً ودقيقة. لا شكَّ في أنَّ مِن تمام محبَّتنا لامرئ هو أن نحبَّ مَن يحبُّهم ويحبُّونه، وهذه هي طبيعة الأمور إن لم نرَ منهم أو نسمع عنهم ما نُنكِر أو نكره.
ولكنَّ الرابط الأقوى برأيي، هو مباشرٌ مع هذه الحاجَّة، مع لهجتها الصافية التي احتفظت بها الأمَّهات العامليَّات برغم النزوح المبكِّر إلى المدن وأحزمة البؤس والانسلاخ الطويل عن «الظَّيْعَة» (الضيعة أو القرية، باللهجة العامليَّة)، مع الانسياب البطيء والسلس للكلمات من بين شفتيها، مع نبرتها الحنون وبساطة حديثها، مع الطيبة المتدفِّقة من عينيها، مع كلِّ الآلام وكلِّ الصلابة التي تخفيها ملامح وجهها السمح، مع الابتسامة الهادئة والنكتة الحاضرة، مع زيِّها، مع حركة يديها عند الانفعال... هذه الحاجّة ذكِّرتني بجدَّتي «أم محمَّد» التي ربَّتني كأمٍّ وفقدتُها منذ عشرين سنة. ولا بدَّ أنَّ هذا الأنموذج الطاهر الحاضر في جبل عامل قد ذكَّر كُثراً أيضاً بجدَّةٍ لهم أو أمِّ أو خالةٍ أو عمَّةٍ أو جارة!
ربَّما نسيت للحظةٍ، وأنا أعيد ذلك المقطع لمرَّاتٍ متتاليةٍ، أنَّ المناسبة مناسبة فقدٍ، ففرحتُ قليلاً لأنَّني أطفأت بعض اشتياقي لجدَّتي، ووجدتُ أصلاً مشتركاً مع رجلٍ من خيرة مَن أنجبتهم هذه الأمَّة، وتعرَّفت ولو قليلاً على «حسن الطفل» قبل أن يكبر ليملأ الدنيا ويشغل الناس، «حسن الطفل» ابن «أمِّ حسن» وعن لسانها... والأهمُّ أنه لا عجب في أن يكنَّ مثيلات «أمُّ حسن»، أي هذا الأنموذج، قد أنجبن ما يكفي من الرجال الرجال ليشدُّوا عضد هذا السيِّد.
ولكنَّ طبيعة المناسبة غالبةٌ، ولا أجد نفسيَ إلَّا حزينةً لوداع الأمَّ الأبرز في هذا الأنموذج الذي يرحل عن دنيانا يوماً بعد يوم... وحزينةً لحزن السيِّد. وأجدها غاضبةً مِن أنموذجٍ معاكسٍ جديدٍ متفشٍّ، منقطعٍ عن ماضيه، ملتصقٍ بقشور غيره، غير واعٍ لحاضره، واهمٍ فيما يخصُّ مستقبله ومستقبل أبنائه... أنموذجٌ غريبٌ ينتج غرباءً ويفتك بمستقبل أمَّتنا كالسرطان.
ختاماً، كلُّ الامتنان للفقيدة إقراراً بفضلها على هذه الأمَّة بِمَن أنجبت وربَّت. وكلُّ العزاء للسيِّد، الرجل الثقة، الذي فقد قلباً كان ملجأه الأوَّل في هذه الحياة. وكلُّ التمنِّي بطول العمر لمثيلات «أمِّ حسن» ليبقينَ لأبنائهنَّ وللسيِّد أيضاً، يُفرِحن قلبه ويُطفِئن بعض اشتياقه إلى والدته ويُعوِّضنه عن بعض حنانها.
 كاتب لبناني

* نقلا عن : لا ميديا


في الإثنين 03 يونيو-حزيران 2024 10:29:10 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=13933