المهن والحرف التقليدية.. اقتصاد وموروث ثقافي
أمين العباسي
أمين العباسي
اليمن غني بالمهن والحرف التقليدية القديمة. وهي على قدر أهميتها، إلا أنها غير مستثمرة كما يجب، رغم بعض المحاولات التي ظهرت هنا وهناك، في بعض المدن اليمنية، وفي فترات زمنية مختلفة، ربما كان أبرزها محاولات بعض المنظمات المحلية والقليل من المشاريع الدولية المعنية. وتظل تجربة الصندوق الاجتماعي للتنمية ربما الأكثر أهمية، حيث حاول أن يعمل على حفظ هذا الموروث والمورد الاقتصادي على مستويي التوثيق من خلال الدراسات النظرية، والحفظ من خلال تدريب عمالة. وكان للأستاذ محمد عبدالرحيم جازم، الباحث والاقتصادي الكبير، دور مهم في تأطير هذا المشروع في بعديه النظري التوثيقي أو العملي التطبيقي. تحتاج هذه المهن والحرف إلى تتبعها رصدا تاريخيا، وإحيائها وتطويرها عمليا إجرائيا، على مستويات عدة، جغرافية واجتماعية.
بحسب العنوان هي مهن وحرف ذات بعد ومضمون اقتصادي، لكنها في بعدها ومضمونها الآخر موروث تاريخي ثقافي يعبر بكل صوره وأبعاده عن مستوى حضاري، ونهوض اجتماعي، كان لهما انعكاساتهما وآثارهما الإيجابية على حياة المجتمع فكرا ونشاطا.
على طرفها الآخر فإن هذه التجربة التاريخية بحاجة إلى توصيفها توصيفا علميا دقيقا، وتقيم آثارها المختلفة، وبالذات على مستويي الاقتصاد والاجتماع، باعتبارها موروثا تاريخيا ثقافيا كما أسلفت وكررت. وباعتبارها موردا اقتصاديا يمكن أن تشكل إحدى الروافع والروافد الاقتصادية للبلد، بحكم مساحة انتشارها وقدرتها على استيعاب قدر لا بأس به من العمالة أو ما أصبح يتعارف عليه بـ»العمالة الكثيفة».
للولوج إلى جوهر الموضوع دعونا نفصل بعض المفاهيم على طريق التأصيل والتأطير النظريين. يندرج تحت مدلول العنوان مفهومان رئيسان هما الحرف والمهن، وهما جمع لمفهومي حرفة ومهنة. فما هي دلالة كل منهما؟ وما هو الفرق بين دلالتيهما كل على حدة؟
يشير مصطلح الحرفة إلى عملية الاحتراف، الآتي من الانقطاع إلى الشيء والاستمرار فيه وإتقانه. والحرفة هي عبارة عن مهارة معينة ومحددة يتعلمها الشخص من خلال الممارسة العملية والدربة اليومية والمستمرة، دون المرور بمراحل تعليم نظامية ومنهجية ومقررات تعليمية واختبارات قياس المستوى ثم التحصيل النهائي. بينما العكس صحيح في تطبيقه على مصطلح المهن، حيث يعتمد مفهوم المهنة على عملية الامتهان التي تأتي كذلك من إيقاف الذات وترويضها وانقطاعها على تفاصيل عملية ونظرية تتوج بالمهنية، ويعرف صاحبها بالمهني، غير أن المهنة يستلزمها الكثير والكثير من التعليم، ثم تقييم المحصلة باختبارات متعددة تقيس المستوى المعرفي للممتهن في مختلف المقررات التي تلقاها طيلة فترة التعلم.
في بلد كاليمن يحتاج موضوع كهذا إلى برامج متابعة وتقييم على خارطتي الحاضر والماضي: الثاني من خلال الرصد التاريخي كما أشرت لكل المهن والحرف المذكورة والمنسوبة لليمن في مختلف الوثائق والمدونات التاريخية، وتذييل ذلك بإنجاز تقييم متعدد الأبعاد (اقتصادي، اجتماعي، ثقافي... وغيره) للآثار التي ترتبت على قيام مثل هذه المهن والحرف. والأول من خلال دراسة محاولة إسقاط تلك المهن والحرف على أرض الواقع الحالي، وإنجاز خارطة انتشار وطنية لها، بناءً على معايير جدوى مهنية وموضوعية تجعل إمكانية إعادة ظهورها وتطويرها وممارستها سهلة وممكنة.
هنا يمكن أن نشير إلى بعض هذه المهن، كأعمال النجارة التقليدية مثل الأعمال الخشبية وتشكيلها كفسيفساء ومنمنمات زخرفية جاذبة، أعمال الحديد والنحاس وتشكيلها كأدوات وأوانٍ ومستلزمات منزلية متعددة، الأحجار الكريمة والتعدين البسيط، المنسوجات والمسكوكات وغزل الأقمشة وأعمال الجلديات والتخريز، المحارق وإنتاج الطوب «الياجور»، وأخيرا أعمال البناء الطيني، أو ما عرف تاريخيا بالعمارة الطينية، وهذه ذات أهمية كبرى، نظرا للعديد من المزايا والأسباب التي يمكن بها ومن خلالها سهولة تطوير مثل هذه المهنة على مستويات عدة، وبالذات إذا ما علمنا أنها حظيت باهتمام بالغ على يد العديد من المهندسين، على رأسهم في اعتقادي عالم العمارة الكبير مصري الجنسية والإبداع الدكتور حسن فتحي، الذي قام بتطوير نموذج سماه «عمارة للفقراء»، من خلال إدخال وإضافة عناصر معمارية جديدة، أضفت على هذا النمط من العمارة خصائص إضافية نوعية كخصيصة التكييف الصيفي والشتاء، حيث يمكنها امتصاص الحرارة في الصيف وإطلاقها في الشتاء، والتي طبقها في بعض بلدان أمريكا اللاتينية، ونجحت نجاحا فائقا تلقى رائدها العديد من العروض لإنجاز مدن بكاملها هناك في أمريكا الجنوبية والوسطى.

* نقلا عن : لا ميديا


في الإثنين 15 يوليو-تموز 2024 10:01:58 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=14417