|
جاء اختيار القائد يحيى السنوار خليفة للشهيد إسماعيل هنية في قيادة حركة حماس، ليضع حدّاً نهائياً لجدلية الصقور والحمائم في سُلَّم قيادتها، وفق الوصف الذي ظلّ يتردّد عبر الإعلام الغربي والعربي والإسرائيلي، ما يكثّف البرنامج السياسي لحماس باعتبارها حركة مقاومة تقود غمار معركة مفصلية لا مهادنة فيها.
لخّص اختيار السنوار باعتبار شخصه وهو الذي ترجم في أسره السابق؛ كتاب (الشاباك بين الأشلاء)، وألّف (المجد في رصد جهاز الشاباك) و(حماس التجربة والخطأ) و(شوك القرنفل) في صياغة نفسيّة كفاحية لوجهته كقائد وسياسيّ وأديب، أطلق هدير الطوفان عبر أكبر عملية خداع استراتيجي في تاريخ النضال الفلسطيني، بعد أن حفر خندقه تحت غزة ومكث في جذوعه بين مقاتلي القسّام، يوجّه خطهم القتالي ويحدّد الموقف وفق التطوّرات.
جاء الاغتيال الإسرائيلي للقائد إسماعيل هنية، وهو المقيم في الدوحة، ويتابع ملفّ التفاوض غير المباشر مع الإسرائيلي، وهو الاغتيال الذي دفن معه كلّ احتمالات الصفقة في هذه المرحلة، ودفع الحرب نحو مرحلة جديدة فرضت نفسها على الداعم الأول والأهم لحماس حيث اغتيل هنية هناك في طهران، لتضع العالم أمام استحقاق هذا الاغتيال في المكان الخطأ استراتيجياً وتكتيكياً، وهو ما ساهم في تحديد وجهة حماس نحو الردّ السريع وغير المتوقّع باختيار الشخص الذي يقضّ مضاجع الإسرائيليين لمجرّد أن يرد اسمه، وهم ينامون ويصحون على حلم اغتياله، ما يمثّله من رمزية جامعة للسابع من أكتوبر في العقل الجمعي الإسرائيلي.
عكس اختيار السنوار جملة من الحقائق وقد نضجت على صفيح الاغتيال وقبلها في حرب الإبادة على غزة:
أوّلها؛ أنّ قائد حماس الجديد في الداخل والخارج يقاتل بين شعبه في غزة، يتحمّل ما يتحمّلونه من المخاطر والجوع والقصف، وأنّ حماس عبر الخريطة كلّها حسمت خيارات فعلها، وقائدها يقودها من قلب خندق منذ عشرة شهور، وهي رسالة فاعلة بالإجماع لكوادر وجمهور حماس في الضفة والعالم، بمن فيهم الوسط الإسلامي القريب من حماس، أنّ طوفان الأقصى معركة فاصلة وفق برنامجها القتالي وتحالفاتها الاستراتيجية ومصيرها التنظيمي والسياسي، ما يعني أنّ عصر المراهنة على وقف الحرب، أو التعلّق بهامش العلاقات خارج تحالفات المعركة، أصبح خلف الظهور، وبات المطلوب أن يتخندق هؤلاء جميعاً ضمن برنامج الميدان.
ثانيها؛ شكّل هذا الاختيار ضربة لصلب عملية اغتيال إسماعيل هنية، حيث بات الإسرائيلي يشعر أنه لم يحقّق هدف الاغتيال، ربما فقط تخلّص من خبرة وعقل هنية، نعم، لكنه بالنتيجة وجد نفسه أمام التحدّي الأساس، وهو التحدّي الذي جاهر بتحديده كهدف أساس للحرب؛ بالتخلّص من مبرمج السابع من أكتوبر يحيى السنوار، فإذا به عبر اغتيال هنية يحقّق نتيجة عكسية، ويضع كامل الكيان أمام تحديات جديدة كان بغنى عنها لو كان في زعامته ثمّة عقلاء.
ثالثها؛ انحسار المساحة السياسية في عقل وفكر حماس، لصالح المساحة القتالية، بعد فشل عمليات التفاوض طوال الشهور الماضية، وإن كان هذا لا يعني رفض حماس لمبدأ استمرار التفاوض غير المباشر، وهو التفاوض الذي يراد منه تحقيق أهداف المعركة، ولكنه تفاوض بات على هامش برنامج أولويات حماس، ضمن هذه المرحلة على الأقل، بعد أن دفع اغتيال هنية المعركة نحو أفق إقليمي أوسع من ذي قبل.
رابعها؛ إجماع قيادة حماس على السنوار وتجاوزها للتشويشات من قبل بعض الدول الرعناء، بحسب ما أشار إليه أحد قادتها، نقل حماس نقلة نوعية من دائرة الشره الإقليمي لدول التطبيع، وهي الدول التي تدعم الكيان العبري بالباع والذراع، وإن زعمت إدانتها للإبادة في غزة، إلا أنها جبنت عن إدانة اغتيال هنية، وتمثّل محاولتها التشويش على عملية انتخاب رئيسها الجديد عملية وقحة في مدى خدمتها للعدوان.
خامسها؛ جاء هذا الاختيار انتصاراً لطبيعة التحالفات، التي جاهر السنوار أكثر من غيره في قيادة حماس، في تمتين أواصرها، وهو الذي سبق وتحدّث صراحة عن موقع حماس في محور المقاومة، باعتباره خياراً استراتيجياً ومصيرياً لحماس، ويأتي اختياره اليوم رئيساً لحماس في رسالة ممهورة بوحدة الجبهات بدم الشهيد إسماعيل هنية في طهران والسيد محسن في الضاحية، ليتحد الفعل ناراً في قلب الكيان الإسرائيلي، عبر مشهدية تتجاوز الحالة القتالية لما هي السياسية وربما الفكرية والنفسية والشعورية، مشهدية عنوانها طوفان الأقصى كتأصيل ديني وسياسي جامع، بات السنوار وهو في قلب المعركة يمثّل رمزيّتها المجمع عليها ليس فقط في داخل حماس غزة والضفة والخارج، بل والمحور المساند بأكمله وقد دخل مرحلته الجديدة لما هو أكثر من مساند.
بصمة اختيار السنوار الثقيلة، وهو الأسير المحرّر في صفقة وفاء الأحرار، عبر صفقة للتبادل مع جندي إسرائيلي أسير في غزة، وكان يقضي حكماً بالسجن الإسرائيلي عدة مؤبّدات، بعد أن شارك في خطف وقتل وإخفاء جثة جندي إسرائيلي آخر، اختيار يضع صانع القرار الإسرائيلي في ظلّ هذا الاستحقاق الجديد، أمام اختبار النصر أو الهزيمة دونما مواربة، ما يشير إلى جرأة هائلة عند قادة حماس، وأنها بالفعل تتحرّك وفق أرضيّة تحكمها ثقة كبيرة بالذات وبالشعب وبالحلفاء، وهي تبرز هذا التحدّي، وكانت بغنى عنه لو تحرّكت وفق عقلية براغماتية بمنطق الربح والخسارة، ولكنه أوار المعركة وجذرية الرؤية فيها، وقد اختار نتنياهو أن يمضي فيها حتى النهاية، عندما شنّ حرب الإبادة واغتال من يفاوض، خاصة أن ذلك جاء بعد زيارته لواشنطن صاحبة مقترح الصفقة الأخير، وحماس مع شعبها وحلفائها في الداخل والخارج هي صاحبة الحقّ، وهي أولى أن تمضي في المعركة إلى نهاياتها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
* نقلا عن :الميادين نت
في الخميس 08 أغسطس-آب 2024 09:49:38 م