|
إن تجويع الشعوب ليس مجرد سياسة عشوائية، بل هو استراتيجية مُحكمة تهدف من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق السيطرة والهيمنة على الدول التي تخالف توجهاتها ومصالحها. تُمارس هذه السياسة عبر عدة أدوات اقتصادية وسياسية تستهدف بالأساس تقويض الاستقرار الداخلي للدول المعنية. ومع تنامي الوعي العالمي حول الآثار المدمرة لهذه السياسات، تظل الولايات المتحدة ملتزمة باستخدامها كوسيلة فعالة لفرض إرادتها على الساحة الدولية.
1. الحصار الاقتصادي: سلاح لكسر الإرادة
الولايات المتحدة تعتمد سياسة العقوبات الاقتصادية كأحد أبرز أدوات الضغط على الدول التي ترفض الخضوع لمصالحها. تمتد هذه السياسة لتشمل دولًا من مختلف أنحاء العالم، من روسيا والصين إلى كوريا الشمالية وإيران ودول محور المقاومة. هذه العقوبات تؤدي إلى انهيار الاقتصاديات المستهدفة وتضييق الخناق على الشعوب، مما يولد حالة من السخط وعدم الاستقرار الداخلي.
· روسيا: تأثير العقوبات على الاقتصاد
تُظهر البيانات أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا منذ ضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014 كلفت الاقتصاد الروسي ما يزيد عن 1.2 تريليون دولار حتى عام 2020، وفقًا لتقرير صادر عن المعهد الألماني للدراسات الاقتصادية (DIW). وقد أدت العقوبات إلى تراجع قيمة الروبل الروسي بنسبة 50% تقريبًا في السنوات الأولى بعد فرض العقوبات، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وأسعار السلع الأساسية في روسيا.
· إيران: العقوبات وعواقبها على الشعب الإيراني
أما في إيران، فقد تسببت العقوبات الأمريكية في تضخم الاقتصاد الإيراني بشكل كبير، حيث بلغت نسبة التضخم السنوي في إيران 41.4% في عام 2021 وفقًا للبنك الدولي. كما أدى تقييد صادرات النفط، التي تُعد المصدر الرئيسي للدخل القومي الإيراني، إلى تراجع الإيرادات الحكومية بشكل حاد، مما زاد من الفقر والبطالة بين المواطنين الإيرانيين.
· دول محور المقاومة: الحصار الاقتصادي كأداة قمع
في دول محور المقاومة، مثل سوريا ولبنان، أدت العقوبات الاقتصادية الأمريكية إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية بشكل غير مسبوق. في سوريا، تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نسبة الفقر تجاوزت 90% في بعض المناطق بحلول عام 2021 نتيجة للصراع المستمر والعقوبات الخانقة. في لبنان، أدى انهيار الليرة اللبنانية إلى تراجع حاد في القوة الشرائية للمواطنين، حيث تجاوز معدل التضخم 200% في عام 2021.
2. إبقاء الأسواق العربية والإسلامية مفتوحة للمنتجات الأمريكية والصهيونية
تحرص الولايات المتحدة على ضمان انفتاح الأسواق العربية والإسلامية أمام منتجاتها ومنتجات حلفائها، ولا سيما الكيان الصهيوني، وذلك من خلال مجموعة من الآليات والسياسات الاقتصادية التي تضمن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية في تلك المناطق.
· اتفاقيات التجارة الحرة وتأثيرها على الإنتاج المحلي
أدت اتفاقيات التجارة الحرة، مثل اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والمغرب (2006)، إلى تدفق المنتجات الأمريكية على الأسواق المحلية دون وجود ضوابط كافية لحماية المنتجات المحلية. وفي مصر، على سبيل المثال، ارتفع حجم الصادرات الأمريكية إلى مصر بنسبة 15% بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة في 2004، مما أثر بشكل سلبي على الصناعات المحلية التي لم تستطع المنافسة مع المنتجات الأمريكية ذات الأسعار المنخفضة.
· الكيان الصهيوني واستغلال الأسواق العربية
تُعتبر المنتجات الصهيونية جزءًا لا يتجزأ من سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث تُشجع على تطبيع العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والكيان الصهيوني. تشير الإحصائيات إلى أن صادرات الكيان الصهيوني إلى الدول العربية التي وقعت اتفاقيات سلام معه قد ارتفعت بنسبة 40% في السنوات الخمس الأولى من الاتفاقيات. هذا الانفتاح الاقتصادي يؤدي إلى تدمير الصناعات المحلية في الدول العربية، حيث لا تستطيع هذه الدول منافسة الصناعات الصهيونية المدعومة بشكل كبير من قبل الولايات المتحدة.
3. . منع الإنتاج الداخلي وضرب الإنتاج الزراعي
تعتمد الولايات المتحدة سياسة اقتصادية تهدف إلى منع الدول من تطوير قطاعاتها الإنتاجية المحلية، خاصة في المجالين الزراعي والصناعي، وذلك لضمان استمرار اعتمادها على الواردات الأجنبية، وبالأخص الأمريكية.
· الأمن الغذائي والزراعة: تدمير مقصود للبنية التحتية الزراعية
أدى تدمير البنية التحتية الزراعية في العديد من الدول إلى أزمة غذائية حادة. في اليمن، على سبيل المثال، أدى العدوان المدعوم من الولايات المتحدة إلى تدمير الأراضي الزراعية وفرض حصار خانق على الواردات الغذائية. تقرير منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) لعام 2020 أشار إلى أن 16.2 مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يمثل أكثر من 50% من السكان. ويرتبط ذلك بشكل مباشر بتدمير القدرات الزراعية المحلية.
· التجسس والتدخل المباشر: آلية لضرب الإنتاج الداخلي
كشفت تقارير عن تورط الولايات المتحدة في دعم خليات تجسس تهدف إلى تقويض الإنتاج الداخلي في بعض الدول. في إيران، تم الكشف عن خلية تجسس أمريكية في عام 2019 كانت تستهدف البرامج الزراعية الإيرانية، وفقًا لما ذكرته وكالة الأنباء الإيرانية (إيرنا). هذه الخلايا تعمل على تدمير البذور والمحاصيل الأساسية وتقديم معلومات مضللة للحكومة بهدف تقويض الأمن الغذائي.
كما كشفت خلية التجسس الأمريكية التي تم القبض عليها في اليمن عن تفاصيل خطيرة تتعلق باستهداف القطاع الزراعي في البلاد. فقد نشرت وزارة الداخلية وجهاز الأمن والمخابرات اليمني وثائق شملت اعترف أعضاء الخلية بأنهم كانوا مكلفين بمهمة جمع معلومات حساسة عن القطاع الزراعي اليمني، بما في ذلك تفاصيل حول المحاصيل الزراعية الهامة، البنية التحتية للري، وأماكن تخزين الحبوب، وآبار المياه، وأصناف الحبوب والفواكه التي ينتجها اليمن.
الأهداف الرئيسية لهذه العمليات التجسسية كانت تدمير القطاع الزراعي بشكل منهجي من خلال عدة وسائل. أحد هذه الوسائل كان إدخال آفات زراعية مدمرة من شأنها إلحاق أضرار جسيمة بالمحاصيل الأساسية مثل القمح والذرة. كما عملت الخلية على تقديم تقارير مضللة حول كميات الإنتاج الزراعي بهدف إثارة البلبلة بين المزارعين وتقويض ثقتهم في القدرات الإنتاجية المحلية.
هذا الاستهداف الممنهج للزراعة كان جزءًا من استراتيجية أوسع لخلق أزمة غذائية في اليمن، ما يسهم في تفاقم الوضع الإنساني وزيادة الضغط على الحكومة والشعب اليمني في ظل الحرب والحصار المفروض على البلاد.
4. التحكم في الثروات عبر ربط سعر النفط بالدولار
تُعد سياسة ربط سعر النفط بالدولار الأمريكي أحد أهم الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة للتحكم في ثروات الدول النفطية. هذه السياسة تُعرف باسم “البترودولار” وتُعزز الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على المستوى العالمي.
· البترودولار: آلية استغلال الاقتصاد العالمي
يرتبط أكثر من 80% من تجارة النفط العالمية بالدولار الأمريكي، مما يجعل الاقتصاد العالمي رهينة للسياسة النقدية الأمريكية. وفقًا لتقرير صادر عن بنك التسويات الدولية (BIS) في عام 2019، فإن 60% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية محتفظ بها بالدولار الأمريكي. هذا الاحتكار يؤدي إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية في الدول النامية، حيث تتأثر مباشرةً بالتغيرات في قيمة الدولار.
· الأزمات الاقتصادية وتراجع العملات المحلية
عندما يُطبع الدولار الأمريكي بكميات كبيرة دون غطاء نقدي كافٍ، فإن ذلك يؤدي إلى تراجع قيمة العملات المحلية للدول التي تعتمد على الدولار في تجارتها. في فنزويلا، التي تعتمد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، أدى انخفاض قيمة الدولار إلى تضخم جامح وصل إلى 10,000,000% في عام 2019، وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي (IMF).
5. ضرب العملات المحلية عبر العقوبات والديون
تعمل الولايات المتحدة على إضعاف العملات المحلية للدول المستهدفة من خلال فرض عقوبات اقتصادية وإجبارها على الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية. هذه الاستراتيجية تؤدي إلى انهيار قيمة العملة الوطنية وزيادة حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
· اليمن: تأثير الحرب الأمريكية على الاقتصاد اليمني
أدت العقوبات الأمريكية المفروضة على اليمن إلى تدهور حاد في قيمة الريال اليمني، حيث انخفضت قيمته في المناطق التي يسيطر عليها أدوات أمريكا بنسبة 300% منذ بداية الحرب في عام 2015. وفقًا للبنك المركزي اليمني، تجاوزت نسبة التضخم 30% في عام 2020، مما أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، وتفاقم أزمة الجوع في البلاد.
فخلال مفاوضات الكويت بين اليمن ودول التحالف في عام 2016، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا حاسمًا للضغط على الشعب اليمني عبر التهديد بنقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن. هذا التهديد لم يكن مجرد كلمات، بل كان جزءًا من استراتيجية أمريكية مدمرة تهدف إلى ضرب الاقتصاد اليمني وإضعافه بشكل ممنهج.
جاء تهديد السفير الأمريكي كتحذير واضح بأن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يترددوا في استخدام الأدوات الاقتصادية لإجبار أنصار الله على الرضوخ لمطالب التحالف. وقد تم تنفيذ هذا التهديد بالفعل في سبتمبر 2016، عندما تم نقل البنك المركزي إلى عدن، مما أدى إلى شلل في عمل البنك وتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد. هذا الإجراء أسهم بشكل كبير في قطع الرواتب والخدمات الأساسية، وزاد من معاناة المواطنين.
إلى جانب نقل البنك المركزي، قامت الولايات المتحدة، من خلال أدواتها في الداخل اليمني، بضرب الاقتصاد عبر طباعة كميات كبيرة من العملة بدون غطاء نقدي. هذا التصرف أدى إلى تدهور حاد في قيمة الريال اليمني، وزيادة معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، مما جعل الأسعار ترتفع بشكل كبير وتفاقمت الأزمة المعيشية.
في خطوة لاحقة، وفي إطار التصعيد الاقتصادي، قررت الجهات المرتبطة بالتحالف نقل البنوك والشركات الكبرى من صنعاء إلى عدن. هذا القرار كان بمثابة ضربة قاصمة للقطاع المصرفي في العاصمة، حيث أثر بشكل مباشر على السيولة النقدية وأدى إلى إضعاف الاقتصاد المحلي في المناطق التي تسيطر عليها حكومة صنعاء.
· لبنان: الأزمة المالية وتداعياتها
في لبنان، تسببت العقوبات الأمريكية المفروضة على حزب الله في تدهور الاقتصاد اللبناني بشكل كبير. انهيار الليرة اللبنانية، التي فقدت أكثر من 90% من قيمتها منذ عام 2019، أدى إلى تفاقم الأوضاع المعيشية وزيادة معدلات الفقر. وفقًا لتقرير صادر عن البنك الدولي في عام 2021، يعيش أكثر من 55% من السكان تحت خط الفقر، مما يعكس التأثير المدمر للعقوبات الاقتصادية على الاقتصاد اللبناني.
أخيرا هذا غيض من فيض عن استراتيجية تجويع الشعوب التي تعتمدها الولايات المتحدة تهدف إلى تحقيق الهيمنة والسيطرة على الدول التي تعارض مصالحها. من خلال العقوبات الاقتصادية، وضرب الإنتاج الداخلي، والتحكم في الثروات عبر ربط سعر النفط بالدولار، وضرب العملات المحلية، تُمارس الولايات المتحدة ضغوطًا هائلة على الشعوب المستهدفة، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. إن الوعي بهذه السياسات والتحرك الجماعي لمواجهتها يعد ضرورة ملحة للحفاظ على سيادة الدول وحماية شعوبها من الفقر والتبعية.
*نقلا عن : موقع أنصار الله
في الخميس 22 أغسطس-آب 2024 08:04:50 م