|
يوم أعلنت الرياض تشكيل تحالف عسكري بهدف «إعادة الشرعية» إلى اليمن، خرج من يقول إنها تمكّنت أخيراً من وضع النقاط على حروف الشرق الأوسط، لا «الصغير» فحسب، بل بنسخته «الكبيرة» أيضاً. فالمملكة العربية السعودية لم تعُد تخوض حروبها بالوكالة فقط، عبر الاستعانة بدولٍ وجماعاتٍ وتوظيف جهاديين. ولا هي اليوم تعتمد حصراً على إمكانياتها المالية الفائضة أو على قدرتها - مع سائر دول الخليج - على التحكم بأسواق النفط العالمية. بل أصبحت تستخدم سلاحها الضاري الذي راكمته على مدى عقود من دون استعمال، وباتت قادرة على رسم موازين المنطقة وعلى فرض بعض خرائطها بأسراب الطائرات، التي تتفوّق أعدادها وتقنياتها بأشواط على ما بحوزة خصمها الإقليمي اللّدود إيران.
وقد ذهب غلاة المتحمّسين للانعطافة السعودية إلى التنبؤ بقرب إطلاق «عاصفة حزم» مماثلة في سوريا، فور إنجاز نصر سريع في اليمن. بل إن البعض نظّر لعاصفةٍ موازية، لا لاحقة (زمنياً)، على اعتبار أن ما بحوزة الرياض يسمح لها بفتح جملة من الجبهات دفعة واحدة. أما التعجّل في اتخاذ قرار شن الحرب وتعديل استراتيجية الرياض التي قامت على عدم التدخل العسكري المباشر، منذ أن قامت المملكة قبل أكثر من ثمانين عاماً (التدخل في البحرين ليس نموذجاً لمجهود عسكري)، فقد عُدّ تعبيراً عن دينامية أتاحها دخول الجيل الثالث من الأمراء، الأصغر سناً، على خط العرش. هكذا، ومع ضخ دماء جديدة في النظام، تراءى للبعض أن ما كانت المملكة تفتقد إليه لتكون قوة إقليمية عظمى بات موجوداً: المُبادرة والتدخل العسكري المباشر وتوظيف الموارد بالحدود القصوى.
تمتلك السعودية فعلاً مجموعة من عناصر التفوق على خصومها (إيران) ونظرائها في الإقليم (تركيا ومصر.. إسرائيل بحث آخر)، غير أن حربها اليمنية لم تأتِ في سياقٍ استراتيجي مُعدّ سلفاً، بل كانت ارتجالية إلى حدٍ بعيد. وعدم الانتظام في سياق مرسوم، في السياسة الخارجية كما في الحروب، يكون في العادة وصفة لمجهول أو قفزة في الهواء. السياسة السعودية «الجديدة» قصيرة النفس لهذا السبب بالذات. إذ لا يمكن مُجاراة لاعبين إقليميين قامت سياساتهم على مساراتٍ مدروسة على مدار سنوات، بقرارٍ وُلد في لحظة البحث عن إنجاز لرد الاعتبار، إثر الاتفاق النووي بين الغرب وطهران، وبداية خروج اليمن من تحت عباءة الرياض.
فإيران، مثلاً، تحيك سياساتها النووية والإقليمية خيطاً خيطاً، منذ عقدين من الزمن (أين كان الحوثيون قبل عشرين عاماً وأين أصبحوا اليوم؟). وتركيا وضعت قدماً لها في العالم العربي بعدما يئست من دخول الاتحاد الأوروبي، منذ إمساك «العدالة والتنمية» السلطة فيها قبل أكثر من عشر سنوات (علماً أن استعجالها الحصاد مع موجة «الربيع العربي» كان مكلفاً وأطاح بكثير مما تم إنجازه). ومصر تحاول خطّ مسارٍ بطيء يخرجها اليوم من اللامشروع الذي ميّز عهد مبارك، برغم تخبّط النظام في معالجة مشكلاته الداخلية. حتى قطر، الإمارة الصغيرة، أسست لسياسة منذ العام 1996 تقوم على توظيف القوة الناعمة للاستثمار في النزاعات، توازياً مع لعب دور الجسر الديبلوماسي بين المتصارعين أنفسهم (دعوة أمير قطر في الأمم المتحدة إلى حوار بين الخليج وإيران قبل يومين على سبيل المثال، أو افتتاح الإمارة مكتباً لحركة «طالبان» في الدوحة ورعاية حوارها مع الأميركيين قبل عامين مثلاً..).
لم تعُد الغزوة اليمنية مُطيلة لعُمر النظام السعودي، ولا مُجددة لشبابه، كما كان مُقدَّراً. ما أُريد له أن يكون «نزهة» تحوّل إلى حرب فتحت أبواب المملكة الجنوبية على سؤال الشرعية المكتوم منذ العام 1934، يوم ضُمت محافظتا عسير ونجران إثر آخر صراع مباشرٍ خاضته الرياض مع قوى خارجية (الإمامة المتوكلية في اليمن). الحرب سمحت لأسئلة كبرى حول مستقبل الحكم أن تطفو على السطح كما لم تفعل قبلاً. لم يعد «مجتهد» وحده من يغرد خارج سرب النظام على موقع «تويتر»، مسرِّباً أخبار العائلة ومآزقها إلى الخارج. بل بات آخرون يبدون خشيتهم من مآل الأمور في حال عدم إنجاز تحوّل نوعي في طبيعة النظام، الذي قاتل خارج أسواره على مدى «الربيع العربي»، وكانت له اليد الطولى في تمويل الثورات المضادة في طول العالم العربي وعرضه («الثورة السورية» بصيغتها المشوَّهة من ضمنها). والدعوة التي نقلتها صحيفة «الغارديان» منذ يومين عن أمير لم تُسمّه لأسباب أمنية، لتغيير الملك السعودي درءاً لتداعيات كارثية على البلاد، كــما قال، هي قمة جــــبل الجليد. أمــــا ما خفي، فيُمكن استــــنباطه من الأرقام والوقائع (التــــي يعرض جانباً منهـــا الجزء الثاني من المــقالة الأسبوع المقبل).
المملكة العربية السعودية مقبلة على تحوّل كبير فعلاً. لكنّ طبيعته ليست كما تراءى للمصفقين لـ «عاصفة الحزم» - التي راح ضحيتها خلال أشهر، بالمناسبة، ما يزيد عن عدد الضحايا السوريين خلال الفترة ذاتها من العام 2011. أما التحوّل المقصود، فيُنتظر أن يطال طبيعة النظام الذي سيجد نفسه مضطراً لمعالجة تحدياتٍ داخلية لم يعهدها خلال عمره المديد.
ليست حرب اليمن وحدها ما يدفع في هذا الاتجاه، لكنها الذروة التي تنبئ ببداية تراجع أو مسارٍ بديل. واليمن، وإن لم يشكّل عامل تغيير وحيداً، هو صندوق المنطقة الأسود الذي سيخبرنا عن الكثير من مستقبلها، ويسهّل تفجير عدد من قضايا المملكة السعودية التي قد لا تمت إلى الحرب بصلة مباشرة.. دفعة واحدة.
*نقلاً عن صحيفة السفير
rabie.barakat@assafir.com
في الأحد 11 أكتوبر-تشرين الأول 2015 09:47:45 م