|
تسارعت الاحداث في الخليج وخليج عمان بشكل مكثف , تفجرت السفن وخرج العالم مذهولا ومنددا , وعززت أمريكا من تواجدها العسكري وخرجت تستعرض قوتها وتطلق الطائرات فكان الرد الايراني صارما وحاسما جعل أمريكا أمام خيارات صعبة لا مناص من أحدهما : إما المواجهة , وإما الحوار وكلاهما بالنسبة لأمريكا صعب أحلاهما أمر من الآخر .
فالمواجهة العسكرية لا تعني الضربة الخاطفة التي تفضلها أمريكا بل تعني حربا واسعة النطاق قد يلحق الضرر فيها بمصالح أمريكا في منطقة الخليج وغيرها , كما أن حلفاء أمريكا لن يكونوا بمأمن من حركة النشاط العسكري الايراني ولا من حركة نشاط محور المقاومة الذي يشكل عمقا استراتيجيا لإيران , فالحرب لن تكون نزهة أمريكية على شواطئ الخليج بل تجاذبات عسكرية وسياسية سوف تعيد ترتيب حركة التوازنات في الخليج العربي وفي الشرق الأوسط من أقصاه الى أقصاه .
إيران التي عانت من الحصار كل تلك السنين والعقود لم تقف مكتوفة الأيدي بل ساعدها الحصار علي صناعة واقع جديد لم يكن يخطر لصناع السياسة الأمريكية ببال , وحين أعلنت أمريكا خروجها من الاتفاق النووي مع ايران – وهو منجز وصل اليه أوباما قبل ذلك – كانت تظن أنها ستعيد ترتيب الأوراق بما يضمن لها فرض ثنائية الهيمنة والخضوع على ايران ولكنها وجدت نفسها عاجزة وفي موقف لا تحسد عليه .
إيران أصبحت مضطرة للخيار العسكري وهي تملك اليوم مفردات السيطرة عليه والتحكم بمساراته, وأمريكا وحلفاؤها أصبحوا أكثر عجزا عن مثل ذلك , فالمواجهة التي كانت تحت عناوين أخرى أظهرت تفوقا لمحور المقاومة الاسلامية بقيادة ايران في حين يشكو الطرف المطبع المقابل لمحور المقاومة الهزيمة التي أضحت تلاحقه نفسيا وثقافيا وسياسيا وعسكريا في كل مناطق الاشتعال , وتبدو السعودية ومشروعها أكثر الحلفاء تكبدا لمرارة الهزيمة , ولذلك جرها الغباء – وفق الكثير من الوسائل الاعلامية – إلى تقديم طلب إلى بريطانيا لضرب ايران بعد تراجع امريكا عن ذلك , وحين تعتذر بريطانيا تتجه إلى اسرائيل في بادرة لن تكون إلاّ وبالاً عليها حاضرا ومستقبلا .
اليوم الشعوب العربية تنتفض في حركة رفض واسعة النطاق لصفقة القرن بالتزامن مع عقد ورشة اقتصادية ضمن خطط السلام والتطبيع في البحرين تهدف إلى إعادة ترتيب البناء الاقتصادي وإلى زرع الثقة بين العرب واسرائيل وهو أمر قد يمر بشكل نسبي ظاهرا لكنه سيكون عامل تحريض وقد يشكل رافدا مهما لمحور المقاومة والممانعة ولن تكون السعودية – وهي العامل المهم في خطط السلام والتطبيع مع اسرائيل في ما بات يعرف بصفقة القرن – حاضرة في صناعة المستقبل ولا قادرة على التأثير في مساراته, لأنها من خلال خضوعها لصفقة القرن ستفقد مفردات السيطرة , وقد بدأ تفكيك خطابها الثقافي والعقدي إلى درجة فقدانه لحركة التأثير التي كان يمتاز بها في سالف الأيام بعد اعتراف الكثير من رموز المشروع الوهابي بالوقوع في الخطأ , وبالتحريض على الفساد في الأرض والحث على الإرهاب والتدمير والإفتاء بذلك .
السعودية اليوم تذهب إلى الفناء المؤجل من خلال عوامل عدة تحت عنوان الحداثة والترفيه وهي تعمل على تفكيك نظامها العام والطبيعي وصولا الى حالة الانهيار التي سوف تصل إليها في قابل الأيام كما وصلت إليها بعض المجتمعات التي ماجت فيها ثورات الربيع العربي أو التي وصلها الربيع متأخرا كالسودان والجزائر وهما اليوم يخوضان حرب بقاء في سبيل الحفاظ على الدولة أو على النظام العام .
قلنا أكثر من مرة أن هدف الآخر من تفكيك النظام العام والطبيعي هو عودة الشعوب إلى مرحلة اللا دولة حتى يسهل على المستعمر التحكم بمصادر الطاقة والتحكم بالسياسات ومصادر الغذاء من أجل تركيع الشعوب لثنائية الهيمنة والخضوع وهو أمر أصبح واقعا معاشا في الكثير من الدول العربية ويبدو من خلال تجربة الجزائر والسودان أن المسار ما يزال فاعلا وحيويا.
هذا المسار ستحد منه ومن تداعياته نتائج حدة التوتر في الخليج بين ايران وأمريكا في الحالين ..أي حال الحوار , أو حال المواجهة …, فالتراجع الامريكي عن ضرب ايران ترك أثرا ايجابيا عند الشعوب الحرة والرافضة للغطرسة الامريكية , كما ترك أثرا سلبيا على حلفاء امريكا في منطقة الخليج وهم الذين يدعمون مشروع التفكيك للأنظمة وقد فاح أثر ذلك من خلال شبكة التواصل التي أصبحت تنال من أمريكا واضطرت تحت ضغط اللحظة أن تدعو للحوار مع ايران بعد إعلان امريكا عن تراجعها عن الرد على التصعيد في الخليج وإعادة صياغة منظومة العلاقات بما يضمن التكافؤ وحسن الجوار وتبادل المصالح .
أما حال المواجهة فقضيته محسومة سلفا لصالح إيران فأمده سيطول وذلك ليس في مصلحة أمريكا ولا ترامب القادم على انتخابات لفترة جديدة وقد بدأ تدشين حملته الانتخابية , وأثره سوف يتسع , ومصالح أمريكا ستكون مهددة وغير آمنة في الكثير من البقاع .
ليس من مصلحة أمريكا السكوت على الاستفزاز الإيراني لأنه ينال من شرف زعامتها وينال من قدرها ومن مكانتها لكنها مضطرة لقبول ذلك على مضض فهو أخف عليها من المواجهة العسكرية التي لن تحمد عقباها في حاضرها ولا مستقبلها .
لقد بدأت اليوم حركة توازنات جديدة , وبدأ العالم يتحدث عنها كفرنسا , وبدأت مرحلة جديدة ترسم نفسها في مسار الاحداث , واستطاعت ايران أن تفرض نفسها كدولة عظيمة وعميقة , في حين فشل خصومها في منطقة الخليج وفي العالم .
ليس من الحكمة أن تستقطب الدول من خلال الأموال كما تفعل السعودية ولكن من الحكمة كيف تبني نفسك ؟وكيف تكون مؤثرا وفاعلا في صياغة ورسم سياسة هذا العالم ؟ وقد نجحت إيران في ذلك .
في السبت 29 يونيو-حزيران 2019 09:43:53 م