|
يعد الشاعر الثلاثيني الحسن بن علي بن جابر الهبل واحداً من أبرز وأشهر شعراء اليمن في عصره وعصور من قبله ومن بعده، وقد اتسم شعره بالقوة والجزالة ومتانة البناء وبراعة التصوير، وهو ما مثل انعكاسا لصدق العاطفة التي كانت تعتمل في جوانحه ليهطل دفقها شعراً بديعاً لايختلف عن شعر نظرائه من شعراء العربية الكبار كعنترة وزهير وأبي تمام والمتنبي وغيرهم، قال عنه ابن أبي الرجال بأنه :( نَهَجَ مناهج الأدباء وجاراهم في رقيقهم وجزلهم، وجدهم وهزلهم، ومع ذلك هو السابق المجلي)، وقال عنه الشوكاني في البدر الطالع (1/199): (وله شعر يكاد يسيل رقة ولطافة وجودة سبك وحسن معانيه، وغالبه الجودة، وله ديوان شعر موجود بأيدي الناس إلى أن قال: ولو طال عمر هذا الشاب الظريف، ولو لم يشب صافي شعره بذلك المشرب السخيف!! لكان أشعر شعراء اليمن بعد الألف على الإطلاق).
ولا أدري ما الذي قصده الشوكاني بقوله: "ذلك المشرب السخيف"، ولعله يقصد بقوله ذلك، حب الشاعر الشديد للعترة الطاهرة لما يمثله هذا الحب من عقيدة وفريضة لازمة على كل مسلم، تتناقض مع عقيدة الشوكاني التي دفعته عصبيته المذهبية لقول ذلك القول متناسيًا أن الشاعرية لا علاقة لها بالمعتقدات لو كان منصفاً، ولكن هذا يدل على أن الشوكاني لم يكن عارفاً بالشعر ولا بالنقد الأدبي، الذي يستلزم التجرد التام وأن لا يكون الناقد مقيداً بمعتقد ما أو متعصبا لمذهب.
وهذا بالضبط ما قاله الشاعر أحمد محمد الشامي في كتابه الحسن بن الهبل أمير شعراء اليمن، معلقاً على قول الشوكاني: (ونحن نعلم أن مثل هذا التقريض البياني لا يخطر ببال من لا يتعصبون لغرض أو ينفعلون بهوى عندما يؤرخون أو ينتقدون أو يحكمون .. إلى أن قال معارضاً قول الشوكاني لفظة (لو) قد نستطيع أن نتقبلها مع كل أمنية أو حلم، ولكنا لا نستطيع أن نستصيغها ونحن ننقد الشعر والشعراء، ولا نستطيع أن نقبلها من الشوكاني وفي شعر الهبل بالذات، فقصائد ديوانه بلاغة وفصاحة وأسلوباً وسبكاً وتصويراً وتعبيراً (كلها غُررُ) وإن شابها ما شابها مما لا يرضي الإمام الشوكاني، ولا يرضينا أيضاً في الناحية المذهبية..ألخ ).
ترجمته :
ولد الشاعر الحسن بن علي بن جابر الهبل في مدينة صنعاء وذلك عام 1048هـ ـ 1637م لإسرة اشتهرت بالعلم والقضاء والصلاح، ويعود أصله إلى منطقة خولان ولذا قيل عنه بأنه كان خولاني الأصل، زيدي المذهب، صنعاني المنشأ، درس القرآن وعلوم الفقه واللغة على يد علماء عصره في ظل دولة آل القاسم، وكان معروفاً في حياته بالعبادة والورع والزهد عن طلب الدنيا وملذاتها برغم صغر سنه، على أن أكثر ما كان يميزه عن غيره من شعراء عصره هو ولائه وحبه الشديدين اللذين كان يكنهما لآل محمد(عليهم السلام) وعبر عنهما في الكثير من قصائده التي لطالما تناقلتها الأجيال وتغنت بها الألسن واستشهدت بها العقول، لما فيها من الشعور الصادق والبلاغة وجودة البناء.
وقد توفي رحمه الله تعالى في صنعاء عام 1079 هـ ـ 1668م وهو لم يزل في عامه الواحد والثلاثين من العمر، وتذكر المصادر التاريخية أنه قد دفن في مقبرة (كانت) تقع محل مستشفى الثورة بصنعاء وعندما شرعت الحكومة في بناء المستشفى تم نقل جثمانه إلى قبة جامع العَلَمِي بصنعاء القديمة.
شعره:
لا شك وأن الشاعر الهبل قد ترك لنا إرثاً شعرياً صافياً وفريداً لم يكن مرتبطاً بالدنيا ومصالحها وإنما كان مرتبطاً بنقيضها وبما يجب على الإنسان فعله للسمو والرقي والوصول إلى الجنة والمراتب العليا عند الله، وهو ما سيتضح جلياً للقارئ الكريم عند قراءته لأدبه وشعره الذي ينتمي إلى المدرسة الكلاسيكية سواءً من حيث الشكل (الالتزام بوحدة بناء القصيدة) أومن حيث الموضوع الذي قد يتفرع في القصيدة الواحدة إلى عدة مواضيع مدح وغزل وهجاء ورثاء ومناجاة وحكمة وغير ذلك، على اعتبار أن واحدية الشكل وتعدد الموضوع هما السمة الأساسية للقصيدة الكلاسيكية إضافةً إلى ضرورة استعمال أغراض بلاغية متعددة (طباق وجناس وتشبية واستعارات) للخروج بقالب شعري جميل، وعليه وعند قراءتنا لشعر الهبل نجد أنه قد ركز في شعره على ثلاثة مواضيع رئيسية هي: الغزل العفيف والزهد والمدح.
1-الغزل العفيف:
درج الأغلبية من شعراء الكلاسيكية العربية باختلاف عصورهم على تناول هذا الموضوع في بداية كل قصيدةٍ كانوا يكتبونها، حيث كان الشاعر يفتتح قصيدته بالغزل العذري وعبارات الحب للمحبوب، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك قصيدة البردة لكعب بن زهير التي أمتدح فيها رسول الله (ص) وافتتحها بقوله متغزلاً :
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا
إِلّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَرفِ مَكحولُ
ومن ذلك أيضاً قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي الذي لم يبتعد كثيراً عن كعب برغم فارق الزمن الكبير بينهما:
ريـمٌ عـلى القـاعِ بيـن البـانِ والعلَمِ
أَحَـلّ سـفْكَ دمـي فـي الأَشهر الحُرُمِ
رمـى القضـاءُ بعيْنـي جُـؤذَر أَسدًا
يـا سـاكنَ القـاعِ، أَدرِكْ ساكن الأَجمِ
وعلى ذلك أيضاً درج الشاعر الهبل في بعض شعره ومن ذلك قوله في قصيدة يمتدح فيها أمير المؤمنين علي (عليه السلام):
حتام عن جهل تلومُ
مهلا فإن اللوم لومُ
طرفي الذي يشكو السهادَ
وقلبي المضنى الكليمُ
إن الشقا في الحب عند
العاشقين هو النعيمُ
يا من أكتم حبهُ
والله بي وبه عليمُ
يا هل تراه يعود لي
بك ذلك الزمن القديمُ
2- الزهد والمناجاة:
سبق القول بأن الشاعر الهبل كان زاهداً في حياته وما يتفرع عنه من مناجاة لله ووعظ وإرشاد وحكمة، يقول مناجياً ربه جل شأنه في مقطوعة شعرية أبدع في هندستها، وتنغيم موسيقاها وترصيعها بصدقه الشعوري، ومعبراً فيها عن تقصيره في جنب الله:
وأسوء حالي في غدٍ
لقبيح ما قد كان مني
وفضيحتي يوم الجزا
إن لم تجد بالعفو عني
كيف التخلص من عذابك
ليت أمي لم تلدني
أو ليت أني لم أعش
لو كان يجدي ليت إني
ويقول مخاطباً الإنسان الذي جُبل على الغرور وحب الأنا وحب الدنيا وكيف أن هذه الدنيا تمضي في طرفة عين :
أضعت العمر في إصلاح حالك
وما فكرت ويحك في مآلك
أراك أمنت أحدث الليالي
وقد صمدت لغدرك واغتيالك
وملت لزخرف الدنيا غروراً
وقد جاءت تسير إلى قتالك
ولم يكن الذي أملت فيها
بأسرع من زوالك وانتقالك
3-المدح:
جعل الشاعر الهبل من مدحه وحبه الكبير والشديد للعترة الطاهرة محوراً رئيسياً لشعره، وغايةً لابد من إدراكها، لما لهم من الفضل والمكانة، فسلك في مدحه لهم مسلك المحب المخلص، والثائر الرافض لكل سياسات الظلم والتهميش، وأظهر من خلاله ما يجب على المحب أن يفعله تجاه ممدوحيه وأحبابه من الذود عنهم والحث على حبهم والتمسك بهم وبيان مظلومياتهم وما الذي يترتب على حبهم والولاء لهم من مسئوليات جسيمة تقتضي نصرتهم، وتوجب الفوز يوم الحساب، لقد كان حبه للعترة هو المرآة التي بينت إيمانه بالثورة والخروج على الظالمين، وكيف أنه قد ألزم نفسه بمحاربة الفساد ونقد المنحرفين والفاسدين، لذا فقد شنع عليه كل من يكن العداء والبغضاء للعترة النبوية.
يقول في قصيدة له يمتدح فيها آل بيت المصطفى (ع) ويشرح مدى حبه وولائه لهم لأن حبهم فرضٌ فيه الرشاد والنجاة و في بغضهم الضلال وفوات الأجر والسلامة من العذاب :
لكم آل الرسول جعلت ودي
وذاك أجل أسباب السعادة
ولو أني استطعت لزدت حباً
ولكن لا سبيل إلى الزيادة
أعيش وحبكم فرضي ونفلي
وأحشر وهو في عنقي قلادة
أناضل عن مكارمكم لأني
كريم الأصل ميمون الولادة
أظل مجاهدا لحليف نصبٍ
أضل ببغضكم أبدا رشاده
فإن أسلم فأجر لم يفتني
وإن أقتل فتهنيني الشهادة
ويقول وقد أثقله التحسر على ظلم البعض من الناس لآل محمد وبغضهم لهم لجهلهم بمكانتهم ومنزلتهم العظيمة عند الله، مبيناً كيف صار الأمر إلى غير أهله بتغير أحوال الدين والعباد بعد انحرافهم عن جادة الصواب:
فلا كان من دهرٍ به قد تسودت
على الأُسد في أجامهن ثعالبُه
كفى بالنبي المصطفى وبآلهِ
فهل بعدهم تصفو لحرٍَ مشاربُه
دعا كل باغٍ في الأنام ومعتدٍ
إلى حربهم والدهر جمٌ عجائبُه
فكم غادرٍ أبدى السخائم واغتدت
تنوشهمُ أظفاره ومخالبُه
ثم يتناول في قصيدة أخرى له مأساة قتل الإمام زيد عليه السلام كامتداد لمأساة مقتل جده الإمام الحسين (ع) وكنتيجة مرعبة لكل ذلك الظلم والحيف، اللذين أديا في نهاية المطاف إلى استباحة دماء أهل البيت عليهم السلام والتمثيل بأجسادهم دونما خوفٍ خشيةٍ من الله أو مراعاةٍ لمبادئ وقيم الإنسانية:
صَلَبُوْهُ ظُلْمَاً بالعَرَاءِ مُجَرَّدَاً
عَنْ بُرْدِهِ و حَمَوْهُ مِنْ أَنْ يُسْتَرَا
حَتَّى إذا تَرَكُوْهُ عُرْيَاناً على
جِذْعٍ عُتُوَّاً مِنْهُمُ و تَجَبُّرَا
نَسَجَتْ عَلَيْهِ العَنْكَبُوتُ خُيُوْطَهَا
ضَنَّاً بِعَوْرَتِهِ المَصُوْنَةِ أَنْ تُرَى
و لِجَدِّهِ نَسَجَتْ قَدِيماً إنَّها
لَيَدٌ يَحِقُّ لِمِثْلِهَا أَنْ تُشْكَرَا
أَكَذَا حَبِيْبُ اللّهِ يا أهلَ الشَّقَا
و حَبِيْبُ خَيْرِ الرُّسْلِ يُنْبَذُ بِالْعَرَا
إن الحديث عن الشاعر الهبل وإبراز جماليات وخصائص شعره حديث ذو شجون إذ أن شعره يحتاج إلى جهد كبير ودراسة متعمقة للإحاطة بكل جوانبه، لأن الهبل لم يكن مقلاً في شعره وهناك الكثير من القصائد التي كتبها الشاعر الهبل وخلفها برغم صغر سنه الذي لم يتجاوز الثلاثين عاماً في ديوان جميل ورائع قام بجمعه في مخطوطة القاضي العلامة الشاعر أحمد ناصر عبدالحق المخلافي وحققه وعلق على حواشيه الشاعر والأديب أحمد محمد الشامي، وهو جهد مشكور ومحسوب لهما إلا أنه قياساً بحجم ومكانة الهبل لايكفي، وبالتالي فاستمرار تجاهل هذه القامة الشعرية وإهمالها يعد خسارة كبيرة للأدب اليمني يجب علينا تلافيها ولو بطباعة ديوانه وتناوله بالبحث والدراسة وذلك من باب الإنصاف والحفاظ على تراثنا الشعري والثقافي الذي نعتز به..
في السبت 06 يوليو-تموز 2019 08:49:37 م