> دعوات في ذكرى رحيله العشرين للاقتداء بنهجه وجعله دليلا مرجعاً لمحبة الوطن وكيفية الانتماء إليه
> المطالبة بإعادة طباعة كتب البردوني وإصدار المخطوط منها وتدريس أدبه في المدارس والجامعات وإيفائه حقه
الثورة / إيمــان الحنظلــي
“من أرض بلقيس” انبثق شاعر يماني تجلت في عبقريته فرادة المكان, واستطاع أن يتجاوز قيد الزمان, ليكون شاعر كل الأزمنة وصوت اليمنيين, وهاهو بعد عشرين عاما من رحيله يواجه العدوان لأنه شاعر وطني ومثقف حقيقي، ويؤكد لقارئه أنه صوت الوطن.. نعم إنه دونما ريب المواطن عبدالله البردوني, الذي ظهر بعد عقدين من تواري الجسد في كامل حضوره، متحدثا باسم الوطن ومدافعا عنه، معبرا عن صوت المواطن وفاضحا للأعداء والخونة.. هكذا قالت سلسلة الفعاليات التي أقامتها الجهات الرسمية وغير الرسمية لإحياء الذكرى العشرين لرحيل البردوني ويستعرض هذا الاستطلاع بعضا من آراء الأدباء والكتاب والمهتمين.. فإلى التفاصيل :
مرجع للبشرية
المحطة الأولى كانت زوجة الأديب الراحل الكبير الأستاذة/ فتحية الجرافي التي لخصت جانباً من مكانة الشاعر, وحياة الإنسان البصير, بقولها: الأستاذ عبدالله نوع نادر من البشر, نبيل, مترفع موسوعة يحفظ كل العلوم الإنسانية, والعلوم الحديثة, يتابع كل جديد, رفض أن يحصل على شهادة حتى لا تقيده, كان له الكثير من الأصدقاء كما وجد له الكثير من المنافسين, لكنه كان يكسبهم ويتعايش معهم, كان محبوباً من الكثير من الناس, ليس على مستوى الوطن العربي بل على المستوى العالمي .
وتابعت: لقد رافقته في زياراته الخارجية, كان يخاف منه الشعراء والمشاركين في المهرجانات, أن يأتي بعده أحد خشية أن يكون اقل منه, كانوا يجعلونه آخر المشاركين في المهرجانات, وفي إحدى المرات جاء الشاعر نزار قباني يعّرفه بنفسه قائلا له “أنا نِزار قباني” فقال له الشاعر البردوني “أنت لست نِزار بل أنت نَزار” فاندهش نزار قباني معجباً وقال أول مرة أسمع أن اسمي نَزار.
الجرافي أضافت: الأستاذ كان متعمقاً في اللغة العربية يعرف أسرارها وخفاياها, ومرجعاً لكل البشرية, لقد وصل إلى قمة النضج, هذه الصفات تجعل منا نحاول أن نكسب منها الكثير, فأتمنى لو جميعنا نستفيد منه, ولا يكفي أن نحتفل فقط بذكراه, إنما نحاول أننا نتعلم منه, كل ما وصل إليه, فهذا هو واجبنا نحوه.
قراءة كف الآتي
ومن أصدقاء الفقيد الكبير ومجايليه وتلاميذه ومحبيه ، تحدث المفكر والكاتب عبدالباري طاهر قائلا: البردوني كان يرى الظاهر والباطن وما يعتمل فيهما يدرك قعر التحولات القادمة ويوصفها كما سوف تكون, كان يأتي على استقراء التاريخ العربي والإسلامي, لو كان البردوني يعيش بيننا لا فتجع من قراءته للكارثة قبل وقوعها بعدة عقود فمطلع السبعينيات لم يكن أحد يتوقع ما نشاهد ونعيش. يستقرئ الحالة القائمة بأقبح صورها وأبشع تجلياتها في حالة الثائر اليمني والبلاد والعباد, نبوءات الشاعر عميقة فالعديد من دواوينه وقصائده لا تخلو من استشراف المستقبل وقراءة كف الآتي, تتنبأ بمأساة الشعب القادمة والمعاشة اليوم, فتحية لروح الرائي العظيم والأعمى الأكثر إبصاراً منّا.
المفكر والشاعر
بدوره قال الشاعر عباس الديلمي: الأستاذ البردوني شخّصَ من هو عدو اليمن أولاً وماذا يريد, وكتب عنه وهو يعرف أن ذلك العدو لن يتغير وإن مر الزمن, لذا نشعر أن ما يحدث اليوم قد تناوله في السابق, لأن البردوني كان بالبصيرة يرى ما سيأتي, فما بالنا بعد أن شخَّص من هو العدو وماذا يريد العدو, عرف ماذا يريد وكيف يخاطبنا, وهذه ميزة لا تتوفر إلا عند القلة من الأدباء والمفكرين الذين يقرؤون ما حولهم, والذين يستشرفون الغد الآتي بمشاعر الشاعر وإحساسه, وإدراك المفكر, والبردوني جمع بين عقلية المفكر وشفافية الشاعر, وفهمه لما حوله, كما عرف ما هي اليمن, وعرف أيضا من هم أعداء اليمن, ولهذا يُقرأ شعره الثابت وكأنه كُتب اليوم, وهذه ميزة يعترف بها كل الناس, وأكدتها الأحداث التي نعايشها اليوم.
مجال ثري للأقلام الناقدة
ساحة بحث
من جانبه تحدث الشاعر عبد الجبار سعد قائلا: أشعار البردوني كشاهد على عصره, وكمستشرف للمستقبل بحاسة الشاعر الملهم, وكجامع لثقافات العصور السالفة, لهذه الثلاث المتفردات في شاعرنا وأديبنا الكبير, أمتزج الوطن وهمومه في شعره وأدبه ونقده, فلأعجب والحال كذلك أن نجد من قصائده ما يظن قارئوها أنها قد قيلت في قلب معركتنا مع دول العدوان, مع أنها قيلت قبل عقود ، لكنها الموهبة والاستشراف.
وأضاف :”فليقصفوا لست مقصف ..وليعنفوا أنت أعنف “هي مثال لهذا الاستشراف البديع, وبالعموم فإن هذه القضية مجال واسع وثري لأصحاب الأقلام الناقدة في مراجعة تراث أديبنا الكبير, ولقد سجل الفقيد في قصيدته السياسية عن “الغزو من الداخل” باكراً ملامح المرحلة المعاشة بتفاصيلها, بما فيها حال العملاء, وبائعو نفوسهم للأعداء وأمراء النفط , وفي شعره الكثير مما يجب أن يُفتش عنه النقاد ويقدمونه للقراء.
في قصر الرئيس
كما تحدث د. حمود العودي عن الانطلاقة الأولى للبردوني إلى خارج اليمن عبر مشاركته في مهرجان أبو تمام بدعوة من الرئيس العراقي الأسبق, وحضوره الفاعل والمميز في سماء الأدب العربي والعالمي قائلا : كان الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر, يستمع أسبوعيا كل صباح لمجلة الفكر والأدب من صنعاء التي كان يُصّدرُها البردوني رحمه الله, وكان متأثرا بهذا الأداء الفكري والأدبي الرفيع, الوطني والقومي الأصيل إلى حد كبير أضاف: ولذلك فأنه عندما جاء تنظيم مهرجان أبو تمام, كان محمد حسن البكر, هو الداعي للبردوني وقال لا بد وأن يحضر هذا الشاعر من اليمن في مهرجان أبو تمام, هنا يمكن أن نقول إنه طبيعي عادي, لكن الأمر غير الطبيعي وغير المعتاد, هو أن البردوني لم يذهب إلى فندق الأدباء والشعراء العرب, ولكنه نزل في قصر الرئاسة, لدى رئيس الجمهورية العراقية وقتها, وقعدا طوال الليل, والبكر يتحدث معه ويستمع إليه, وهو يُسمعهُ قصيدته, وكل شيء عن اليمن, وأدب اليمن وتابع: في اليوم التالي في افتتاح المهرجان, كان الرئيس أحمد حسن البكر, هو الذي أصر أن تُلقى قصيدة البردوني في الجلسة الافتتاحية, وكان ذلك , وتعرفون الانطباع الذي كان ينتاب الشعراء العرب عن إنسان لا يعرفونه, وعن إنسان ليس له سابقة في محافل الشعراء العرب, ثم عندما برز إلى المنصة زاد توجسهم ووجومهم وترددهم عن هذا الرجل الأشعث الأغبر, وبدؤوا يستشعرون كثيرا من الغيظ , كيف يأتي هذا في المقدمة وفي جلسة الافتتاح قبل غيره, ولكنهم ما إن سمعوا شعره وقصيدته وهذا أمر معروف, حتى قام نزار قباني رحمه الله, وأخذ قصيدته أمام الكل ومزقها, وقال لا شعر في هذا المهرجان بعد هذا الشعر اليمني للبردوني.
حاضر لم يمت
من جهتها ، قالت الشاعرة/ هدى أبلان: الحضور الذي أحدثه البردوني في الوجدان والفكر اليمني, هو حضور الكاتب , حضور الشاعر, حضور المؤرخ, حضور الإنسان الرائي لكل ما يحدث وما سيحدث, البردوني لم يكن قامة إبداعية عادية, كان شاعراً وجدانياً ومفكراً ومؤرخاً كبيراً للشأن اليمني, بكل تجلياته الغابرة والحاضرة واللاحقة, كان قارئاً وهاضماً لكل ما يحدث, لذلك جاء إبداعه مختلفاً, هو الحاضر في زمن الغياب, هو الموجود الذي كتب كثيراً عن كل ما سيحدث, وأعتقد أن البردوني خالدٌ في وجدان اليمنيين وفكرهم, لم ولن يمت.
روح الوطن
الشاعر زياد السالمي تحدث قائلا: البردوني شاعر الوطن الكبير, وأستاذ الشعر العمودي الفصيح, تأتي ذكرى وفاته العشرين في ظل مرور خمسة أعوام من العدوان التحالفي العالمي على اليمن, تأتي وطائرات العدوان تصب قنابلها فوق يمن البردوني وتفتح صاعق الصوت دون مراعاة للأطفال والنساء والشيوخ ودون مراعاة لله وشرائعه في الإنسان, تأتي ذكرى البردوني واليمن تضرب بصواريخ محرمة وتحاصر من البر والبحر والجو، بل تأتي بعد استهداف ضريحه المهاب بحرمة الموت والقصيدة, فلم يستهدف العدوان الجبان غير ضريح الشهيد الثائر والمفكر السيد حسين الحوثي وضريح الشاعر والمفكر عبد الله البردوني وأضاف: علينا كشعراء ومهتمين بالشأن الثقافي في إحياء ذكرى الشاعر الكبير عبد الله البردوني الذي, أرخ لهذا العدوان قبل حدوثه, ورفضه ووقف إلى جانب وطنه، وقصائده تجسد على الواقع, الالتزام بالسير على ذات النهج, ونجعل هذه المناسبة انتصاراً لليمن وإرادته الشعبية, ولقضيته الكبرى في الاستقلال والسيادة, واستئصال العملاء والخونة, وبالتالي الوقوف بحزم أمام من يسخر كتابته وإبداعه بعيداً عما يحدث في وطنه, حتى نلمس أن لا استثناء منا, وأننا جميعاً في ذات المركب, وكالجسد الواحد ضد العدوان وفي مواجهته.
السالمي تابع سارداً نواحي تفرد البردوني قائلاً: البردوني من الصعب جداً أن نستطيع إيفاءه حقه, كان روح الوطن جسد ذلك في كل كتابته, أعطى حاور ووجه وتألم وحب, كان روح المواطن, ناضل وسجن ووهب وغنى بوطنه وحلم, لكن لم ينل إلا اغترابه, البردوني إنسان كسر كل الحواجز, وقفز إلى العالمية, كقفزته تلك وهو في سن الرابعة عشر إلى المزرعة, بحثاً عن زاد يسد رمقه ليواجه هذا العالم القبيح, البردوني أعطانا فرحتنا وحرر ألسنتنا, فما نواجه من موقف أو حدث إلا كان البردوني حاضرٌ عنا, نستشهد بشعره, ونرد بوجه ذلك بما تعلمنا في مدرسته, من حكم وعبر وتضحية وشموخ وأضاف: البردوني وجه الأمة الآتي من رغيف الأمهات, البردوني ديدن الموروث وصياد البروق, جواب العصور ومملكة البساطة, وحكاية الغريب في الوطن الغريب, البردوني ضمير الإنسانية اللاذع لملل الفاشية والقصور, يظل ينبض في قلوب فقهت, ويحرق وجوهاً جفت, البردوني هو البردوني دونه البر وتحته السماء, وحبره البحر, يمضي بنا, ربما لمكانٍ نزعم أنه الوطن, وهوية نزعم أنها العروبة, وزمانٍ نزعم أنه الكفاح, ويكشف بالأخير قصر رؤانا وعمق خطوته, يُعري كل ذلك ويبدي رحمته, إنه الخلد الخالد, والنور الصامد في وجوه الحالمين, والعصف السافخ في عيون الخونة.
ميثاق شرفي
يخلص الشاعر زياد السالمي ، إلى ما ينبغي حيال ذكرى البردوني ، قائلاً: من خلال ما تنبئنا ملامح تجارب الكثير, البردوني إلهام متجدد في خيال الشعراء, الجميع يظل مجسداً أو مختفياً بين سطور البردوني الذي التهم من جايله, ويلتهم من جاء بعد ذلك, باعتبار أن القراءة الزمنية تقتضي قرناً كاملاً, كما تقتضي وجود وعي مسبق, بوضع لمسة فنية تضيف في الصورة والوعي إكمالاً لنهج أو ضداً له, لهذا يظل البردوني هو الشاعر الوحيد الذي سيطوي صفحة القرن العشرين, ويضعه تحت إبطه ولن يسمح لأحد بنزعها عنه.
ففي هذا الزمن الممتد من بعد أبي تمام والمتنبي, ظل الأدب زائفا,ً وتراكمت الفجوات الزمنية , التي أصبحت عائقاً أمام كل متطلع لإيجاد حيز في خانة الشعراء العظماء, حتى جاء البردوني.
ويختم حديثه بالقول: هذه مناسبة ليست كسابقاتها من المناسبات فلتكن ميثاق شرف بما يناوئ ويواجه ويعري هذا العدوان الظالم, احتراماً لهويتنا اليمنية, ولأنفسنا, واحتراماً لتاريخ البردوني, وأثره الإبداعي ونضاله الكبير, في تثبيت معالم السيادة الوطنية, ورفض الوصاية والتدخلات في الشأن اليمني, ونبذِ كل مخلفات الوصاية من العملاء, كما يظل البردوني رمز كفاح, وماهية وجود لدى كل حر ومنصف, تتطلب أن نكون بمستوى مجاراته أخلاقاً وقيماً ورؤى, كترسيخ الوعي, ورفع حماسة الشعب في الانتماء لليمن, والدفاع عن سيادتها وبقائها ومكانتها,وإنفاذ إرادة شعبها, دون الرضوخ للأطماع الآنية, وقد قال لنا البردوني أنه ضد العدوان وضد استعمار بلده وضد العملاء, فماذا يا أدباء ويا كتاب اليمن ستقولون له .
حضور خالد
ويشارك الكاتب/ عبد العزيز ابو طالب بقوله: البردوني ينطلق من شاعرية مرهفة, صبغت الشعراء العظماء أمثاله, ما جعله يعلي من شأن القيم الإنسانية والوطنية, كالحرية والاستقلال والدفاع عن سيادة واستقلال الوطن, فكثير من الشعراء خلدوا في قصائدهم انتصارات وانكسارات شعوبهم وأوطانهم, ومن يقرأ قصائد البردوني يجد ذلك واضحا .
كما أنه لا زال إلى اليوم وبعد وفاته يؤدي دوره في استنهاض الأحرار للدفاع عن أوطانهم ويرجع أبو طالب هذا إلى سببين قائلاً: السبب الأول ظاهر, وهو احتواء دواوينه على قدر كبير من الاهتمام ومعالجة قضايا اليمن, والناس بطبعهم يتابعون شاعرهم العظيم , والثاني متمثل في تفرد البردوني بالتنبؤ بالمستقبل, وكأنه على فقد ناضريه خرق حجب المستقبل ليقرأ لمعاصريه ما سيحدث في قابل السنين, ولذلك نرى كثيرين يرجعون إلى قصائده, التي فسرت أحداثا يعيشها اليمن, مثل قصيدة مصطفى وغيرها التي تكلم فيها عن حرب لها رائحة العقيدة, ويقصد بها معركة آل سعود على اليمن, والتي وقعت بالفعل علي خلفية العقيدة, رحم الله شاعر اليمن الكبير البردوني
عاشق الوطن
في حين قال السياسي/ حسن زيد : البردوني رحمه الله, كان متحرراً من أي احتياجات, أو أطماع ذاتية وشخصية, وكان مرتبطاً وعاشقاً لتراب الوطن, وأن العشق والتحرر من الاحتياجات جعله بهذا المستوى العظيم, من القدرة واستشراف المستقبل والتعبير عن اليمن ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
نسي أن يموت
الشاعرة الدكتورة ابتسام المتوكل تحدثت عن سر خلود البردوني واستعصائه على الموت بقولها: في الثلاثين من أغسطس في العام 1999م نسي البردّوني أن يموت، وترك لجسده حرية المغادرة، وأصرت روحه على الارتقاء في مدارج خلود الوعي الشعبي والنخبوي, ليس يمنيا فحسب, بل عربيا كذلك، وقد أنصف ابن نخلة بنت عامر نفسه فكان خلوده في الوعي الإنساني استحقاقا طبيعيا, لما قدمه للإنسانية من قيم ثورية, وجمالية وأدبية ومعرفية, عشرون عاما منذ ارتقى أديبنا ومؤرخنا وشاعرنا وفيلسوفنا الأستاذ عبدالله البردوني، وما زادته الأعوام المتعاقبة إلا حضورا وتعملقا على الثرى وفي القلوب، بكلماته العميقة وبمواقفة الوطنية الخالصة وأضافت: لهذا نحتفل بحضوره المتجدد وذكراه المتأبدة، وتربعه في سماء الإبداع الإنساني, الذي انطلق من أرض بلقيس, وانتمى لها, وظل وفياً لثراها مخلصاً لقضايا إنسانها, بل إن احتفاءنا بالحالة البردونية تجاوز الذكرى السنوية ليكون استحضارا دائماً, واستذكاراً متكرراً لكل ما كتبه وأنجزه من مواقف أسعفتنا حين خذلتنا الأقلام التي كشفت عن زيفها, والقامات التي تقزمت حين تطاول العالم بعدوانه علينا، والأصوات التي خفت بعضها واختفى بعضها الآخر, حين هطلت الغارات على وطننا, فلم نجد سوى صوت البردوني فهتفنا معه:
فليقصفوا لست مقصف… وليعنفوا أنت أعنف
وليحشدوا أنت تدري … أن المخيفين أخوف
لهم حديد ونار … وهم من القش أضعف
عشق صاف
المتوكل غاصت في أعماق هذه القصيدة، ومضت تقول :
إنه صوت الوطن الذي تماهى معه البردوني، هو الذي ينطق في هذه القصيدة وفي سواها، وهو صوت أعلى من صوت الخيانات, التي تزعم أن الأحرار جهلة، أو كما قال البردوني: أنت لا تقبل جهلي إنما… ليس عندي للخيانات غزل!.. هذا الحس البردوني الوطني الصافي هو الذي تستحب فيه وحده المغالاة أو كما قال البردوني: إني أغالي في محبة موطني.. لمَ لا أغالي؟ وهو في موضع آخر يقول: أحرجت من قال غالى ومن يقول تطرف, هذا الحس وأضافت : الذي يجمعنا، ويجعل من شخصية البردوني شخصية عابرة للخلافات والمزايدات، والمناطق والأحزاب والمذاهب والسلالات, فليكن البردوني دليلنا جميعا إلى كيف ننتمي لليمن الأكبر من كل المشاريع والأهواء, وكيف نحتمي بمواطنتنا, لنذود عن ترابنا الغزاة والطارئين على تاريخنا الحضاري السابق للتأريخ, أو كما قال البردوني في وصف ما يراد لليمني الحر أن يكون عليه:
يا موطني! من ذا تنادي هنا؟… اسكت! لماذا؟ أنت لا تعلم
إن طويل العمر لا يرتضي … حيا ينادي أو صدى يلهم
الصمت أنجى. حسن! إنما… في نار صمتي (يمن) مرغم
ترون أن أنسى يمانيتي… كي يطمئن الفاتح الأغشم؟؟
… لكن لماذا إن أهلي بنوا… هنا ديارا وهنا خيموا
…ما زلت أدري أن ذا موطني… لم لا أناديه وعندي فم؟
حُجة على العملاء
الشاعرة الدكتورة ابتسام المتوكل، لفتت إلى هذا الحس الوطني العاشق لم يقتصر على شعر البردوني فقط ، قائلة :
ولنخرج من شعره إلى جزء نثري مقتطف يعد حجة البردوني على كل من يخدم الأعداء اليوم وفي كل يوم، يقول البردوني في كتابه “الثقافة والثورة في اليمن”، متحدثا عن حقبة الثلاثينيات “وكان اشتعال الحرب في تهامة, يعطي الإنجليز المبرر لعدم اعترافهم بحكومة الاستقلال, لأنها لم تمد نفوذها على الأرض, التي كان يسيطر عليها الأتراك في الشمال, وفي هذه الحومة نشأت بواكير المعارضة السياسية, لكي تستغل هزائم تهامة أمام الزحف السعودي, والتخلي عن بعض المناطق كمآخذ على الإمام، وكانت دعايتهم ضد نظام صنعاء لصالح أعداء الوطن من محتلين في الجنوب, ومن مهاجمين من الشمال الغربي، وكانوا يقصرون الحرب على الإمام يحيى والسعوديين وكأن اليمن بتهائمه مجرد بستان إمامي, لا يهم اقتطاع بعض أجزائه أحدا من المعارضة, مع أن فترات الحروب تلغي المعارضة السياسية, وتعسكر النظام ومعارضيه, تحت راية الدفاع الوطني”.
وأضافت :الحديث ذو شجون، وليس يسعفنا إلا الالماح والإشارة إلى ضرورة قراءة دروس البردوني في الوطنية التي يقول في كتابه قضايا يمنية عنها: “فليس هناك إلا وطنية كاملة أو لا وطنية، أما من كان نصفه وطنيا، فلابد أن يكون نصفه الآخر عميلا أو خائنا، وقد تتغلب نصف العمالة على نصف الوطنية, لما للعمالة من أرباح مؤقتة”.
تختم الدكتورة ابتسام حديثها بطرح مطالب عاجلة ، قائلة :مطالب عاجلة جميل أن نتقاسم الاحتفال هذا العام بما نسميه نحن ذكرى خلود المواطن عبدالله البردوني، لكن الأجمل أن يكون لهذا الاحتفال مسارُه الإيجابي من الجهات الرسمية, تحديدا في إنصاف البردوني الذي قدر العالم إنجازه المعرفي, وعده إضافة للإنسانية, ونحن هنا لم نقم حتى بإعادة إصدار كتبه, التي يبدو كأنما سيقت إلى خزيمة بعد رحيله مباشرة، كما لم تصدر أي جهة كتبه التي لم تر النور، ولم يتحول بيته سواء في صنعاء أو في مسقط رأسه إلى متحف كما يليق به، وكما تصنع الدول لعظمائها ومبدعيها, لم يقدم في مناهجنا الدراسية كما يليق به، ولم تصنع عنه أفلام وثائقية، ولا درامية، ولا حلقات متلفزة عن سيرة حياته, رغم أنها حافلة بالكثير مما يجدر توثيقه, لم توضع صورته على طوابع البريد, أو العملة الوطنية, وتركنا المهمة لليونيسكو، لم نسعَ لدى اليونيسكو ليكون يوم الثلاثين من أغسطس يوماً عالميا يحتفى فيه بهذا الإنسان الذي قهر كل الظروف, وتجاوز كل العوائق ووصل بإبداعه المتفرد للعالم بأسره”.
تلك كانت نماذج من أراء حول شخصية البردوني وأدبه, ومازالت هذه الشخصية حافلة بالكثير من الثراء الإبداعي والإنساني, الذي يستحق الكتابة والدرس, بوصفه ثروة إبداعية تقدم الوجه المشرق لليمن في المجال الفكري والثقافي على المستوى العربي والعالمي.