|
والحياة المستحقة يهون في سبيلها الموت...غير أن مجموع قصائد درويش المنتمية للحقبة الأوسلورامية كانت للأسف باسم السلام والحياة وعبثية الصراع تثبيطاً للمد الثوري الفلسطيني المقاوم وإماتة لروح التضحية ودعوة لأنانية فلسفية خلص إليها درويش تأسيساً على تجربة هزيمة بيروت 82 والتي لفظ خلالها آخر أنفاسه الثورية في (مديح الظل العالي)...(حاصر حصارك لا مفر سقطت ذراعك فالتقطها...اقرأ باسم الفدائي الذي خلقا من جزمة أفقا..)..وتالياً باتت الثورية فعلاً عبثياً وعدمي الوجهة والمآل في قصيدة (الزنابق البيضاء) و (لاعب النرد) حيث بات الشاعر يريد (طفلاً باسماً لا قطعةً في الآلة الحربية) و (يموت الجنود مراراً ولا يعرفون إلى الآن من كان منتصراً..ومصادفة قال بعض الرواة لو انتصر الآخرون على الآخرين لكانت لتاريخنا البشري عناوين أخرى)....
الانحراف الثوري والفلسفي في تجربة درويش الشعرية لا ينفي الجمالية العالية التي تكتنف نصوصه لكن هذه الجمالية الفلسفية ذاتها تصبح أكثر خطورة على المتلقي العربي والفلسطيني أولاً لما تملكه من قدرة على النفاذ إلى خلجاته والتأثير فيها سلباً....بين درويش ودنقل أختار دنقل وإن كنت أحب الأول لكنه حب مغلف بالحيطة من فخاخ نصوصه الجميلة والساحرة ...
شهداء طريق التحرير كانوا يعون جيداً أن على (هذه الأرض ما يستحق الحياة) ولم يكونوا هواة موت بل يريدون الحياة بشروط أهمها الكرامة والحرية ....وهنا يكمن مفترق القطيعة الثورية بين درويش صاحب العبارة الآنفة ودنقل صاحب (لا تصالح....)...مفترق في القضية الاجتماعية موضوع المقاربة لا في البعد الجمالي الفني المحض في التناول....
السؤال هو : لماذا يسعى الشعراء والمثقفون من درجة الكبار إلى تعميم يأسهم كتجربة شخصية وكمآل على الأجيال التي خاطبوها لحقبة طويلة بثورية عالية لا تؤمن بالمستحيلات ..؟!....
والجواب برأيي هو : لأن الشاعر والمثقف يسعى بدءاً لصناعة جمهور فيتماهى مع آلام وآمال الشعب في رحلة استقطابه للجماهيرية ومراكمة رصيد حضور ، لكن هذا التماهي الاجتماعي يصطدم بسياق آمال وآلام الشاعر ذاته فيشرع في تسويق قناعاته الشخصية للجمهور باعتبارها قناعات موضوعية غير ذاتية وتنتمي لسياق الاستقطاب القديم للشاعر....الخلاصة : حين يصل المثقف والشاعر إلى مراده الشخصي ينقلب على مسلماته الجماهيرية الاجتماعية لأنه يجبن أمام تحدي السير في السياق العام على حساب رفاهه الشخصي فهذا السير مقرون بالوعورة والكلفة فالفلسطيني لم يبلغ ضفة التحرير لكن درويش مثالاً بلغ ضفة الرفاه فاصطدم الخطان المصيريان والمآلان ببعضيهما البعض ودخل الشاعر مرحلة تطويع الخط العام لخطه الشخصي باعتساف فلسفي وتعبيرية جمالية عالية هي حصيلة تجربته الطويلة مع النصوص والحياة والجمهور....
إنه صدام بين طريق التحرير وطريق الحرير....بين شاعر أناخ في بحبوحة حياة مخملية باذخة وشعب لايزال يعيش شتات مخيمات الصفيح تحت رحمة صحون (الأونروا) مثخناً بخيانات النخب الثورية والرسمية. قابضاً على مفتاح (العودة) الذي استبدله درويش وغالبية المثقفين العضويين بمفتاح ممغنط يفضي إلى شقة على نهر السين والتايمز وجدارية مكتظة بالأوسمة وكؤوس وميداليات التكريم الغربي و (زهرة لوتس) محنطة لا تفوح منها رائحة حياة ولا تنضح بملح الدموع وعرق الكدح في (ساحة لا تنتهي...) ولا يصل الحبيب إلى الحبيب فيها إلا (قتيلاً أو شهيدا).
* نقلا عن لا ميديا
في السبت 19 أكتوبر-تشرين الأول 2019 08:54:17 م