القاضي العادل ينبغي أن يُطاع لا أن يطيع
عبدالعزيز البغدادي
عبدالعزيز البغدادي
 

إذا كانت عدالة القضاء قضية محورية فإن استقلاله مسألة جوهرية ومبدأ أساسي من مبادئ تحقيق العدالة؛
ولا يتحقق كلاهما إلا بوجود القاضي المستقل الذي يوظف استقلاله لتحقيق العدل ، والبحث عن هذا القاضي يحتاج إلى قرار سياسي واعٍ ومخلص وحازم لا يخضع للابتزاز السياسي أو المناورة والتقاسم أو التسويف والمساومة أو الأهواء والعلاقة الشخصية أو الإعجاب والاستلطاف أو الحب والكراهية وهو قرار يتحمل كامل مسؤوليته من بيده السلطة والولاية العامة سواءً وصل إليها ، بالاختيار أو بالاستيلاء عن طريق الشرعية الدستورية أو الثورية ، فإذا أُحسن اختياره وفق هذه المعايير وجبت طاعته على كافة أفراد المجتمع وكل السلطات لأن القاضي بحكم ولايته العامة مناط به الفصل في كل النزاعات وملزم بتطبيق القوانين وحماية الحقوق والواجبات التي تتضمنها ، ما يهم هو استشعار المسؤولية ، والقيام بواجباتها ، و حماية مصالح الناس كل الناس بَرِّهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم بتجرد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)المائدة آية (8) ، والمصالح المشروعة هي المصالح الجديرة بالحماية وينظر إليها بالمنظور الدنيوي وإن كانت المرجعية دينية لأن الدين وبخاصة الإسلام لبعده المفترض عن الكهنوت يشمل العقيدة وأساسها غيبي بحت والحكم فيها للخالق وحده لقيامها على الغيب غالباً ، وما ظهر منها يجب إخضاعه للقواعد العلمية والضوابط المقننة أو المتعارف عليها أما الشق الثاني المتعلق بالشريعة التي يحكم فيها بالظاهر وتفصيلها في المذاهب الفقهية في باب المعاملات ، وتتضمنها القوانين والدساتير في البلدان التي اعتمدت تقنين أحكام الشريعة .

وعلى هذا الأساس لا يجوز اختيار (س) من الناس قاضياً اعتماداً على أنه مؤمن لأن الإيمان يختلط فيه الظاهر بالباطن وهو معيار الحكم فيه لله وحده، أما السلطة الدنيوية فتحكم بناءً على الأسس والقيم والمبادئ والمعايير المنضبطة والشفافة ويجب أن يكون حكمها بعيداً عن الأمزجة والأهواء والعلاقات الشخصية من قرابة أو انتماء عرقي أو مذهبي أو طائفي أو جهوي أو أي انتماء سوى انتماء المواطنة، والقضاء سلطة دنيوية عامة وإن كانت لها مكانة خاصة.

والقاضي الذي يصلح للقضاء يدرك بالضرورة أن الطاعة العمياء تناقض الإسلام الذي يقوم على حرية الاختيار واستشعار المسؤولية (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) آية (29) سورة الكهف ، وإذا كانت التكاليف في الإسلام يخاطب بها الجميع فإن القاضي معني بإعمالها على نفسه وفي تضمينها ما يصدره من أحكام ، هذا هو المنظور العام للإسلام دعك من النماذج التي ظهرت باسمه بغرض التشويه الممنهج وأقبحها هذه الجماعات الإرهابية التي جرى ويجري تفريخها وما تمارسه وتصدره وتنفذه من أحكام ما أنزل الله بها من سلطان مثل إعدام مخالفيها والتفنن في أساليب تعذيبهم واغتصاب النساء وقتل الأطفال !!.

والعلاقة بين سلطات الدولة ومنها السلطة القضائية وبين من له الولاية العامة يجب أن تقتصر على الإشراف العام دون التدخل المباشر في أدائها وسلطته في إصدار القرارات المتعلقة بتعيين قيادات القضاء العلياء يجب أن لا يُساء تنظيمها واستخدامها حفاظاً على مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء لأن آلية اختيار القيادات العليا من القضاة مثلاً ما تزال خاضعة لمزاج رئيس الدولة بغض النظر عن مستوى كفاءته وحرصه وفهمه لأهمية استقلال القضاء ، وفي اعتقادي أن أي دولة يكون فيها القول الفصل في اختيار قيادات السلطة القضائية العليا تبعاً لمزاج رئيس الدولة أو رئيس السلطة التنفيذية أو مرهوناً بإرادة التوافق السياسي أو لرغبات عصبة من القضاة هذه السلطة لا يحق لها الحديث عن قضاء مستقل لأن القضاء العادل والمستقل حاجة مجتمعية ملحة لا ينبغي أن ترتهن لرغبات خاصة تختطف السلطات وتجندها لمصالحها ووفق رؤاها وتتمترس خلف شعار القضاء المستقل ، لا بد من آلية تتمثل المهنية كما تتمثل حاجة المجتمع للعدالة وتستوعب أهمية التنسيق والتوازن بين السلطات والمصالح بما يلبي المصلحة الوطنية العلياء .

والطاعة في الإسلام تقوم على النقل مع إعمال العقل لتحقيق المصالح المشروعة للفرد والمجتمع ولهذا أمر الله الناس بالتأمل في الخلق لتكون طاعتهم له إحقاقاً للحق أو إبطالاً للباطل والوقوف ضد الظلم وترسيخاً لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو جوهر ما يقوم عليه الجهاد الذي ينبذ العدوان والبغي والانحراف، والطاعة لابد كذلك أن تبنى على البصيرة (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يوسف آية (108)،

والسلطة السياسية التي تدرك أهمية وجود مثل هذا النوع من القضاة لبناء دولة عزيزة تضع أحكامهم وقراراتهم موضع الطاعة والاحترام ولا تبحث عن قيادات تطيع أصحاب النفوذ وتتاجر باستغلاله ولا تتطاول على سلطة القضاء اعتقاداً منها أن إصدارها قرارات عزلهم وتوليتهم يمنحها سلطة التدخل في شئون القضاء لأن هذا الاعتقاد ينم عن جهل وتطاول، وكل هذا يتوقف على وجود القضاة الذين يستحقون هذه المكانة و(المرء حيث يضع نفسه)، ومن المؤسف أن عدداً كبيراً من قضاة اليوم يلهثون خلف الولاية بأي ثمن وهذه كارثة ضحيتها العدالة والسلام.

تمر بك الآهات ملء الجفون
تسأل ماذا جرى للعباد
تمتشق الصبر
والمعجزات
سراعاً تسير إلى المستحيل
والله يجلو النوايا يستشف الغيوب.

 

* نقلا عن الثورة نت 


في الثلاثاء 22 أكتوبر-تشرين الأول 2019 09:54:21 م

تجد هذا المقال في الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان وآثاره
http://cfca-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://cfca-ye.com/articles.php?id=1921