|
أبرز إنجازات الثورة الإسلامية في إيران كان تخليق نظام سياسي مؤسسي نقيض لنظام الشاه الأمريكي ومؤاتٍ لتطلعات الشعب الحر والرؤى الثورية الطامحة، وغير مكبل بلزوميات الفلسفة الغربية للديمقراطية والحقوق والحريات... نظام استطاعت معه الجمهورية الوليدة المضي في المشروع الثوري صوب آفاقه الشعبية التحررية على شتى المستويات، بروافع غير هجينة ولا كسيحة ولا عاجزة بالقصور الذاتي لزمن الهيمنة الغربية.
ترتيباً على هذه الجذرية الثورية تمكنت إيران الجمهورية من إدارة زمن الحصار ومواجهة حرب الثماني سنوات الإمبريالية ومواجهة الثورة المضادة بمرونة واقتدار نابع بين من سطوع مسارها الثوري وموضوعيته لجهة فهم واقع الصراع وحاجات الطبقات الشعبية إلى طي زمن الهيمنة بزمن يليق بآدميتها وقدراتها وطاقاتها التي بددتها عقود الهيمنة في خدمة الغرب الإمبريالي، وباتت الثورة مؤاتية لتتحول مداً يصب في تحقيق وترسيخ وجودها العصامي الذي لا تبعية فيه لغير الشعب الحر الشريف الثائر.
بالمثل كان مسار الثورة الكوبية راديكالياً في تحقيق القطيعة مع منظومة قيم الهيمنة والتبعية للإمبريالية وحاسماً مع علاقات إرث السيطرة الطبقية ورموزها وأطيانهم وثرواتهم التي راكموها من جوع وشظف وعوز الغالبية الكوبية المفقّرة.
لم تعمل الثورة الكوبية بالقاعدة الوهابية السلفية عن «ذباب بجناحين أحدهما داء والآخر دواء» على غرار ما يجري اليوم في يمن أيلول, فهذه القاعدة التي تزاوج بين النقيضين هي مصرع العمل الثوري والسياسي ذي الغايات الثورية.
إن الثورات التي قادتها زحوف الطبقات الشعبية المسحوقة والمستضعفة إلى القصر، فانخرطت في خضم اعتبارات تسووية توافقية مع ظل القصر وكواليسه، وتموضعت في ذات المنظومة المؤسسية الموروثة، وركنت إلى ذات الروافع الكسيحة الماضوية، هي ثورات حكمت وتحكم على نفسها بالإعدام سلفاً خارج بحر المسحوقين والمستضعفين، من خلال قطيعتها المتنامية معهم لجهة الغرق في علاقات النظام القديم بروافعه التقليدية المفصلة على مقاس حكم سياسي بالوكالة عن مصالح الإمبريالية لا عن مصالح الطبقات الشعبية التي تمثل الحواضن الاجتماعية الثورية صاحبة المصلحة الحقيقية في إنجاز القطيعة مع زمن الوصاية والهيمنة.
لربما كان بوسعنا في اليمن أن نحقق انتصارات كاسحة مبكرة في مواجهة العدوان الإمبريالي على شعبنا وبلدنا لو أمكن لنا إدارة البلد بنظرية حكم ثورية خالصة - منذ البدء - من حيث تعريفها للأدوار والوظائف والغايات والوسائط الكفيلة بالنهوض بها، كما ولو أمكن لنا أن نضاهي قامات رجال الرجال في مختلف حقول العمل العسكري الجبهوي الفذ والمبدع... أقول لربما كان ذلك ممكناً بالنظر إلى عبء المعادلة السياسية الداجنة التي رزحت الثورة تحتها وباتت مكوناً فيها، عوضاً عن أن تخلق معادلاتها الخاصة كرقم جديد فارق مسنود بالطبقات الشعبية وهادف لتثوير طاقاتها الخلاقة الحبيسة والمقموعة، وتمكينها من مواقع فعل ظلت محرومة منها في ظل قهرية معادلات السيطرة الطبقية الوكيلة السابقة.
من يقدم التضحيات اليوم في خنادق وميادين المواجهة سوى أبناء الطبقات الشعبية المقصية طوال سنوات الوصاية، ومفقري الصفيح والقش وأدنى بني التراب قيمة اجتماعية في ميزان التراتبية الوصائية الـ«شبه بائدة»؟ من يسندون سقف الوطن المهدد بالتقويض والمحو اليوم هم من عاشوا في عراء الوطن عقوداً بلا سقوف تؤوي أطفالهم وأهاليهم، وهم بشر الكهوف الموحشة وحضيض الكسب المادي، وفي صدارة هؤلاء تجسيداً لهذه الحقيقة يتجلى الرئيس الشهيد صالح الصماد الذي كان أُبوّة بلا منزل ورئاسة بلا قصر, يحمل خندقه الجهادي الثوري على كتفيه من مهد الوثبة إلى مستقر الشهادة دون وقوف على قارعة حسابات الكسب الشخصية اليومية والترضيات المداهنة على حساب مسار المواجهة.
إن تراب الوطن وبشره اليوم يحمل على ظهره عبء قصور وإقطاعيات الخونة والعملاء والجبناء الرافلين في بحبوحة الوصاية ماضياً وبذخ الارتزاق في الراهن، وهو عبء يدر ذهباً في حسابات الداخل الطبقي المقيم بلا عبء ولا جهد والخارج المفرشخ في مزادات العمالة بلا حدود يغسل عن أكف القتلة الكونيين دماء جرائمهم بحق شعبنا بدماء شعبنا المجني عليه وبختوم منسوبة لدولة يمنية لاتزال موضع توقير المقاربة الثورية المنخرطة في التوافق بمؤسساتها التي تمثل امتداداً بين الداخل والخارج حتى اللحظة!
كيف يمكن للثورة أن تختط طريقها وسط هذه الغابة الحراجية الكثيفة من اللزوميات الماضوية المحلية الإقليمية والدولية، وتنجز انتصاراً لا يتجزأ على زمن الوصاية المستشري في لحم الحكم وعلى عدوان أرباب أدوات الوصاية الذين أطاحت بهم الثورة كأفراد ووقعت في شبكة علاقات سيطرتهم القديمة الجديدة كطبقة؟!
إن «الرؤية الوطنية» التي تتبناها رئاسة «السياسي الأعلى» لا تنطوي على تهديدات جدية لمنظومة قيم الوصاية وأدواتها، ولا على مقاربات جذرية للخلاص من أكبال الوصاية الطبقية القائمة وأجهزتها ومؤسساتها وروافعها الكسيحة لجهة قدرتها على النهوض بمصالح الطبقات الشعبية الثورية والمستمرة في إنتاج مصالح السيطرة الوكيلة بمسميات توافقية سياسية تسووية.
الرؤية الوطنية في صيغتها الحالية وغموض روافعها هي خبط عشواء في أفق ملبد بالمداهنة للمجتمع الدولي والتعبير المنقوص عن طموحات الشعب وعلى استحياء، بينما لا حضور لتجربة مواجهة العدوان الكوني كاستخلاصات تصب في مستقبل عقد اجتماعي جديد يحتذي المفاهيم المتخلقة من جحيم الصراع ومجرياته بجرأة في أعنف وأجلى وأنصع تجليات الصراع وأكلافه التي لم يسبق لشعب من الشعوب أن اعتركته بقدر ما اعتركت شعبنا اليمني، ولا تكشفت أطراف الصراع وجوهر حقائقه بذات السفور الذي تكشفت معه لشعبنا الشريف الصامد الصابر المجاهد.
الأنكى أننا نصفق منذ بدء العدوان لبطولات الحفاة في مواجهة ترسانة القتل الكونية في الوقت الذي نرفع كروش الإقطاعيين القدامى والسائرين على دربهم من وجوه جديدة؛ فوق كواهل المفقّرين وننقد رواتب وامتيازات مالية لقطيع من القطط السمان تحتشد تحت قبة ما يسمى «برلمان» لتزاول «التفرطة» والتسرية عن النفس الخاملة بالزعيق الفارغ متجشئةً في وجوهنا دسومة ماضي الهيمنة وميوعة حاضر «المداهنات وتأليف القلوب».
هذا الفائض الآدمي المستكين والمُقعد ينبغي أن تفصل منه الثورة خياماً لنازحي تهامة ، وتصنع من جماجم أصحابه منافض لـ«مداوخ رجال الرجال» في الجبهات, لعل وجودهم العبء يكتسب مغزى وقيمة كان ولايزال يفتقر إليهما.
* نقلا عن #لا_ميديا
في الخميس 16 يناير-كانون الثاني 2020 10:04:26 م